انعزالية ترامب عن شمال سورية

{title}
صوت الحق - د. محمد المومني

في معرض تسبيبه لقرار الانسحاب من شمال سورية الذي منح ضوءاً أخضر لعملية عسكرية تركية، يقول الرئيس الاميركي دونالد ترامب إن الوقت قد حان لإعادة الجند لديارهم، والكف عن التدخل بحروب الشرق الاوسط العبثية التي لا تنتهي، وأن الاكراد والأتراك يتحاربون منذ عشرات السنين وليس عملنا أن نوقف ذلك، وأن سحب الجند لا يعني التضحية بالمصالح والتوازنات فتركيا ستواجه حرباً اقتصادية إذا تجاوزت عمليتها العسكرية المتوقعة الحدود الاستراتيجية المقبولة.

يأتي الرئيس الأميركي بإسلوب جديد لتطبيق سياسة العزلة المتجذرة بالذهنية الأميركية النخبوية والشعبية، بعد أن قاوم قادة الولايات المتحدة تيار الانعزال السياسي والاستراتيجي عن المشهد الدولي بعيد الحرب العالمية الثانية وانتهاء الحرب الباردة. انعزالية فحواها أن الولايات المتحدة لا تهتم إلا عن بعد بالاستقرار الاقليمي في الشرق الاوسط، فكل همها بيع الاسلحة وجني الارباح، وأنها لن تقف بجانب حلفائها الذين حاربوا معها، مضحياً بمبدأ الشراكة الحاسم في بناء التحالفات والحفاظ على المصالح.

دع عنك البعد القيمي والاخلاقي للتخلي عن الاصدقاء والحلفاء الاكراد الذين حاربوا الارهاب بإخلاص كتفاً بكتف مع العديد من جنسيات العالم والأميركيين، ماذا عن الضرر على المصالح الامنية والاستراتيجية المباشرة التي ستترتب على الانسحاب؟ قرار الرئيس الأميركي يخلط الاوراق على نحو مؤذ، فالارجح أن الارهابيين المحتجزين، وعائلاتهم والمتعاطفين معهم، والمقدر عددهم بحوالي ستين ألفا، سيهربون من السجن، ويعيدون تنظيم أنفسهم، وذلك بعد الانسحاب المتوقع لقوات سورية الديمقراطية التي تحرس هذه السجون لتذهب لجبهة القتال الشمالية.

ثم إن انكشاف ظهر الاكراد السوريين عسكرياً سيجعلهم يبحثون عن حلفاء ميدانيين آخرين، ولن يجدوا أفضل من إيران التي بالتأكيد سترحب بملء الفراغ الاستراتيجي، وتحقق المصلحة بمد خط تواصل مباشر من طهران مروراً بالعراق وسورية فلبنان. ألم يكن ممكناً تجنب تلك التكلفة الاستراتيجية من خلال دور وموقف سياسي أميركي، بتحقيق الاهداف من إنشاء المنطقة العازلة وأهمها إعادة اللاجئين عن طريق الطلب من القوة الميدانية الكردية في شمال سورية استقبال وإيواء هؤلاء اللاجئين وهي التي كانت على الارجح سترحب بذلك.

قرار السيد ترامب يشبه الخطأ الاستراتيجي بالانسحاب بسرعة ودون تدبر من أفغانستان بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، ما خلق فراغا استراتيجياً ملؤه الارهاب والتطرف.

لا أدري كيف يتوقع الرئيس الأميركي من منفذي سياسة بلاده الميدانيين بالشرق الاوسط أن ينسجوا تحالفات وثقة مع عديد الدول التي يعملون معها يومياً بعد هذا الانسحاب الاحادي غير المدروس أو المنسق والذي دفع الجميع لإعادة حساباتهم. على الرئيس الأميركي ألا يتوقع أن يحمي أحد من الحلفاء ظهر بلاده إذا كان هو غير مستعد لعمل الشيء ذاته، ومخطئ هو إذا اعتقد أنه يستطيع وحيداً الحفاظ على المصالح دون شراكة مع الحلفاء.