أحفاد بينوكيو
صوت الحق -
عندما تتلاعب أيادي الزمن بخيوط الأدب، تصبح الشخصيات أحفادًا لأساطيره، وتنعكس آثارها في أجيالٍ متلاحقة. يجتاحنا الماضي بأسطورة تتناغم مع الحاضر لتصنع أجيالًا جديدة من الخيال والشخصيات الخشبية . يمتد بخفية ليحكم أقدار البشر، وينقش اساطيره بعمق في عقول الأجيال الفارغة ، ومن بين حناياها يخرج علينا هؤلاء الذين تجسدت فيهم روح الكذب والانحراف عن الحقيقة، مما يجعلهم تحديًا خطيرًا يُعيق مسيرة المجتمع ويشكلون عبئاً ثقيلاً عليه .
في لفتة غامضة تتداخل فيها الخيوط الزمنية تنظيماً كنسيج بيت انثى العنكبوت ، يبرز فيها أحفاد النجار " جيبيتو " بصناعة حديثة قدمية ليزفوا الينا " احفاد بينوكيو " كرعاة لهم ومراتع تتربى فيها رذيلة اخلاقهم ، بينوكيو ذلك الصبي الخشبي الذي اكتسب حياةً واقعية بقلبه النابض وتناسُب طول انفه مع افعاله .
يتصنع هؤلاء الأحفاد ببراعة متناهية لتتجلى " متلازمة بينوكيو " في افعالهم ، يُلهمون المحيطين بهم بروعة سرديّة، ويبثون في نفوسهم الأحلام والوهم، فكأنهم يحملون لواءً يحث الآخرين على انجرافهم وراء الكذب والتلاعب في الأفكار و الأجساد .
هؤلاء الأحفاد يمتلكون مواهب فريدة لتأليف أدب الأكاذيب وتزييف قصائد الحقائق . يلفتون الأنظار بخيوط الإغراء ويبثون الأوهام في عقول الناس. كما لو أنهم يقولون: " ان الكذب والنفاق له فنه الخاص، ونحن فنانينه " .
عندما نبحر في مياه زمننا الحالي، نكتشف بأن هؤلاء الأحفاد متورطون في تكوين البينوكيين الجدد ، يشجعونهم على اتباع نمط سلوكي مشابه، فتصبح أرواحهم مجذوبة للسذاجة والغرور.
في زمن المعلوماتية والشبكات العنكبوتية والتواصل الاجتماعي، ينتشر البينوكيون بسرعة هائلة، يصبحون أبطالًا في عروض مسارح الأوهام والشهرة المزيفة ، يُدمج العالم الافتراضي مع الواقع ليصنع لهم منصةً للاستعراض والانتحال، فتلج صفحات التواصل بأكاذيبهم وترويجهم للتضليل والتلاعب وترى أقلامهم والسنتهم تقطر زيفا و تملقا كشعراء الهجاء و المديح لسلاطين الوهم و الخيال المصنوعة من بقايا حطاب ضل طريقه ...
نعم ، إننا نعيش اليوم في واقعٍ مليء بالتناقضات ، تتداخل فيها الحقيقة بالباطل والخيال بالحق ، وتختلط المفاهيم بلا حدود . يتأثر الناس بأخبار ملتوية ومعلومات مضللة، فيجدون أنفسهم بين شريطين زمنيين متباينين؛ زمن بينوكيو الذي زرع في عقولهم الكذب، وزمن الحاضر الذي يُلهمهم البينوكيين الجدد بالمزيد من الأوهام.
لا يمكن للبينوكيين الجدد أن يختبئوا خلف وجوههم الزائفة ، والسماح لسلوكهم بالازدهار والتعاظم إلى الأبد .
ومع ذلك، يمكن الاستفادة من هذه الظاهرة لنكون مؤهلين للوقوف في وجهها. يمكن لهؤلاء الأحفاد أن يكونوا قدوة إيجابية إذا قرروا أن يستخدموا مواهبهم لتحقيق التغيير الإيجابي والنزاهة وراجعوا فطرة ضمائرهم .
تتحدى هذه الظاهرة مسؤوليتنا تجاه أنفسنا ومجتمعنا. يتعين علينا أن نكون محكمي النظر وحكماء في اختيار النماذج التي نحتذي بها والأشخاص الذين نسعى لمحاكاتهم.
لأنه من الواضح أن التحديات التي يمثلها البينوكيين الجدد تتطلب تحركًا قويًا وحازمًا ، لا بد لنا من الجهد الجمعي لتحديد هويتهم والتصدي لسلوكهم الخطير لنتمكن من المحافظة على طهارة ونقاء المجتمع من شرورهم .
نعم يمكننا تجاوز تحدياتهم إذا تحدثنا بصوتٍ واحد ضد الكذب والنفاق ومن يمثلونه ، وعملنا معًا لتحقيق مجتمعاً أكثر نزاهة واعمق أخلاقاً .
لذا، علينا أن نتحدى أواصر الزمن، ونواجه هذا التحدي بشجاعة وحزم. بأن نُعيد للأخلاق قيمتها وللصدق مكانته الطبيعية، وأن نتجاوز حدود البينوكيين ونحطّم قلاعهم الخشبية المزيفة وأجسامهم الوهنة . ينبغي علينا أن ننشر الوعي والتوعية، ونحث الجمع على التمييز بين الحقيقة والخيال، لنتمكن من تميم ما افسده النجار جيبيتو ولعبته الخشبية في مجتمعٍ لطالما تحلى بالقيم العليا والأخلاق النبيلة.
إنها رحلةٌ شاقة لكنها ضرورية، إذ يكمن في التحدي مفتاحاً لتغيير المستقبل . لنقم بدورنا في رسم لوحة جديدة للحقيقة والشفافية، ولنحطم قيود الأكاذيب والوهم. هيا بنا ننعش قيم الأمانة والصدق، لنُحقق مجتمعًا يتألق بنقاء القلوب وصدق الأرواح.
هيا بنا نجعل من الحقيقة سيدةً للزمن وتاجاً لعرشها ، ونقطع خيوط الكذب والانحراف بأيدينا النظيفة بكل صدق وتفاني .