القضية الفلسطينية تتحول إلى قضية إنسانية بدلاً من سياسية
صوت الحق -
لقد بدأت تتعالى الأصوات الرئيسة في إسرائيل خلال السنوات الماضية وهذه الأيام، بخاصة مع حكومات النتن ياهو تباعاً، بإسقاط السلطة الفلسطينية وعدم الأعتراف بالتعامل معها، بل والأستمرار في تكريس سياسة الإستيطان، ورفض حق العودة وتقرير المصير ، أو حتى الإنخراط في أية مفاوضات، نتيجة لما جرى على الأرض وخاصة في غزة، وفقدت السلطة الوطنية الفلسطينية حضورها الشرعي في قطاع غزة، بعد إنقلاب حركة " حماس " على الوضع الفلسطيني، مما أعطى الحكومة الإسرائيلية الراهنة تأكيد أن الرئيس محمود عباس نصف شريك ونصف رئيس، مما يؤكد أن الحكومة الإسرائيلية لم تشرع في دعم السلطة الوطنية الفلسطينية في أي مرحلة سياسية أو تاريخية، بل عملت على إختصار إتفاقية أوسلو من خلال التصميم على إدارة أمنية للعلاقات مع السلطة والتركيز على الإستمرار في التنسيق الأمني عبر لجان الإرتباط الأمنية وملاحقة عناصر المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع، مما أدخل قيادات السلطة الوطنية الفلسطينية في المستوى الأمني في مواجهات مستمرة مع الرأي العام الفلسطيني، بخاصة أن التهديد الإسرائيلي من خلال السلطة الوطنية الفلسطينية كان ولا يزال يتركّز في ضرورة إقدام إسرائيل على العمل في إتجاه الأمن لا السياسة.
وتواصلت القيادات الفلسطينية إنطلاقاً من هذا الأمر، وليس من خلال خيارات تفاوضية في ظل قرارات صدرت في مراحل متتالية، وبعد الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس بوقف التنسيق الأمني، الذي كان يصدر من اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعلى رغم ذلك فإن السلطة وفي مستوى القيادات العليا كان يجري مع الجانب الإسرائيلي، ومن خلال عناصر جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي شاباك ، ومن ثمّ ، لم يتحقق الهدف الرئيس من أوسلو ولم تحسم ملفاته لأعتبارات متعلقة بحالة التطرف والتصعيد الإسرائيلي، إضافة إلى انقسام الصف الفلسطيني بصورة لافتة، مما أدّى إلى إستمرار السلطة الوطنية الفلسطينية في عدم الإلتزام بأية مقررات لأتفاقية أوسلو، ولم تعد هناك أية مرجعيات حقيقية للضغط على الحكومة الإسرائيلية في ظل دعم أميركي لافت وخاصة في الأيام الأخيرة، إضافة إلى صعود جيل من المتطرفين اليهود إلى سُدة الحكم في الأحزاب والكتل الحزبية، مما أعاق مناقشة الموضوعات الخاصة بحق العودة وتقرير المصير والمستوطنات والقدس ألتي تحولت إلى ساحة نزال في ظل تصميم اليمين الإسرائيلي على حسم الحق اليهودي في القدس، وإعادة ترتيب الأوضاع ومخالفة نص الإتفاق الموقع بين الأطراف الثلاثة : الفلسطينية، والإسرائيلية، والأردنية بحق القدس في الإشراف على المقدسات الإسلامية والمسيحية، ومن ثمّ فإن إتفاق أوسلو بقي موجوداً على الورق ولم ينفذ، وإن كانت هناك بعض الملاحظات المهمة التي ينبغي الإشارة إليها، وعلى رغم إختصار الإتفاق في الملف الأمني وضغط الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ الشق الأمني فقط، وعدم الدخول مجدداً في أي صيغة.
أولها : أن الإتفاق ما زال موجوداً، ويمكن أن يفعّل مع إختلاف الظروف الراهنة والقوى التي يمكن أن تباشر جمع الطرفين، فالسلطة الفلسطينية موجودة على جزء من أرض فلسطين التاريخية، بصرف النظر عن مساحتها، وأنها تباشر مهامها في إطار أنها ( كيان ) دولة حقيقية قيد التعامل والتشكل، وأنها مستمرة بصرف النظر عن الأداء أو المهام أو الدور الذي تقوم به.
وثانيها : أن السلطة الفلسطينية باتت واقعاً دولياً مشروعاً يحظى بحضور وأعتراف دولي في المحافل والمنظمات الدولية، ولها هويتها وشخصيتها في الأمم المتحدة وعشرات من المنظمات الدولية والإقليمية، أي أن السلطة باتت بالفعل كياناً سياسياً حقيقياً ليس في حاجة إلى إعتراف أو تعامل مع إسرائيل.
وثالثها : التخوفات أو المطالب التي تدعو إلى تفكيك السلطة أو تقويض كيانها تعمل في إتجاهات مخالفة، وتقر مبدأ الفوضى وعدم الإستقرار السياسي، أو الأمني في الداخل الفلسطيني، بخاصة أنها أقامت حضوراً شاملاً في الأراضي المحتلة، والبديل للطرفين على جانب الفصائل الرافضة لوجودها يعني فوضى لا تتحملها إسرائيل أصلاً، بل وتعمل أجهزة الأمن على مراجعة مواجهتها، وتحذر من اليوم التالي لرحيل القيادة الفلسطينية الحالية، حيث سيكون البدائل كثر، والمواقف تتغير، والولاءت تمضي في أطر محددة، الأمر الذي يعني أن إسرائيل تدرك أهمية السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض، مما يتطلب من السلطة العمل وفق صيغة أخرى، ربما تختلف عما هو موجود الأن، وفي ظل مواقف مرتبكة ومترددة في التعامل مع الوضع في غزة، بخاصة أن الإستمرار في إدارة المشهد الراهن بات أمراً مطروحاً، حيث لا إقرار بوضع المصالحة الفلسطينية بين حماس و فتح، ولا توجد أية مقاربات حقيقية من خلال الوساطات التاريخية المطروحة في تغيير الأمر الواقع، وهو ما يؤكد أن الأمر سيستمر في وضعه الراهن، ولن يتغير في إطار حسابات ومصالح كل طرف، بخاصة أن الأمور تغيرت، ولم تجر إنتخابات رئاسية أو تشريعية، وتمسك كل طرف بإدارة المشهد وفق حساباته ومصالحه، إضافة إلى أن إسرائيل أمعنت في العمل على إضعاف السلطة، وأتخذت سلسلة من الإجراأت ألتي عملت على إيصال السلطة إلى حافة الهاوية مع وقف المساعدات الأميركية، بل وتجميدها، وتعامل الإدارة الأميركية من منطق أعلى والتركيز على المفهوم الإسرائيلي في التعامل، وهو ما يؤكد أن الهدف إبقاء السلطة في موقعها وعدم إسقاطها، في إشارة مهمة إلى ما يمكن أن يتم ويحتاج إلى مراجعة أميركية بل وأوروبية، مع عدم تقديم المساعدات المنشودة فلسطينياً، والوضع الحالي في قطاع غزة وتحول القضية الفلسطينية إلى " قضية إنسانية وليست سياسية "، إضافة إلى الدخول في مواجهات متتالية من قبل الفصائل، بخاصة حركتي حماس و الجهاد الإسلامي واستمرار المواجهات التي أوصلت الأمر إلى حائط صد.
وفي ظل سيناريوهات مفتوحة الأن لا تعرف عواقبها في ظل العملية العسكرية الإسرائيلية البربرية والهمجيةالراهنة على غزة، ألتي قد تنتهي بتغيير الواقع الراهن في القطاع وإعادته إلى السلطة أو تشكيل هيئة دولية إقليمية لإدارته أو العمل من أعلى من خلال وضعه تحت الأئتمان الدولي لحين التعامل معه، بخاصة أن السلطة الوطنية الفلسطينية هي صاحبة الحق في التولي رسمياً بصرف النظر عن الوضع الراهن، ووجود الفصائل الفلسطينية في داخل القطاع، ويبقى القول أن إتفاقيتي باريس و أوسلو لم تعودا موجودتين على الأرض، وإن بقيا في مستوى نظري ليس أكثر، ما يعني أن إسرائيل عندما تريد الحديث عن شريك فالسلطة موجودة، وعندما تقر بمفهوم الأمن والسياسة فالسلطة غير موجودة أصلاً، على رغم أن السلطة تحظى بقبول دولي عام، وهي بالفعل ( كيان ) دولة، وعلى رغم المحاولات الفلسطينية في إعادة تفعيل نصوص الأتفاقيات، بخاصة باريس، أو تعديل بعض بنودها لتلائم المشهد الراهن فإن إسرائيل ترفض ومستمرة في خطها، لكن من المؤكد أن إسقاط السلطة الوطنية الفلسطينية، أو حل مؤسساتها أو تقويض أركانها ليس حلاً أو موقفاً أو توجهاً حقيقياً في ظل ما يجري من مراجعات دولية تتم في سياقات محددة، وما بقي في إتفاق أوسلو من نقاط بات من واقع التاريخ في ظل جيل من الساسة الإسرائيليين الأيديولوجيين، الذين يراهنون على نفي الآخر، وتصفية القضية الفلسطينية من ملفاتها كما هو جار حتى اللحظة في قطاع غزة، وفي ظل سيناريوهات مفتوحة على مختلف المشاهد السياسية والإستراتيجية والأمنية.
وهكذا إستمر الوضع في فلسطين سواء في غزة أو القطاع حتى وصل الوضع إلى ما نحن عليه اليوم .
المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات
الإمارات العربية المتحدة 2023/10/24