خوف أرباب المنازل يمنع عاملات المنازل المهاجرات من التنقل والاندماج في المجتمع الأردني

صدام المشاقبة - رغم مرور سنوات طويلة على وجودهما في كل من الأردن ولبنان، لم تتمكن العاملتان الإثيوبيتان أسريبا وكاديسو من التحدث باللغة العربية أمام الكاميرا، الأمر الذي يعكس ضعف اندماج العديد من عاملات المنازل المهاجرات في المجتمع الأردني. هذه الصعوبة في التواصل ليست فقط عائقًا لغويًا، بل تعكس عزلة اجتماعية تعيشها شريحة كبيرة من العاملات المهاجرات، نتيجة لظروف العمل وطبيعة العلاقة مع أرباب المنازل، إضافة إلى غياب برامج تأهيل حقيقية تساعدهن على التفاعل مع البيئة المحيطة.
للاستماع لنص التقرير الصحفي اضغط هنا
ورغم أن العاملات يشكلن جزءًا أساسيًا من الاقتصاد المنزلي في الأردن، إلا أن الأرقام الرسمية حول أعدادهن تحمل الكثير من التضارب، وهو ما يبرز التحدي في تنظيم هذا القطاع. بحسب فايز الجبور، مدير مديرية العاملين في المنازل في وزارة العمل، فإن عدد العاملات في المنازل بالأردن بلغ حاليًا نحو 56 ألف عاملة من أكثر من سبع جنسيات، يتم استقدامهن عبر 153 مكتبًا مرخصًا. وقد أشار الجبور إلى أن عمليات الاستقدام تتم حصريًا عبر المكاتب المرخصة، وهو ما يفترض أن يضمن الرقابة، لكن الواقع يظهر أن الأرقام متضاربة، والظروف متفاوتة من بيت لآخر.
وتتوزع العاملات بين الجنسيات التالية: 22 ألف إثيوبية، 12,500 فلبينية، 10 آلاف بنغالية، و11 ألف أوغندية، في حين لا يتجاوز عدد العاملات القادمات من كينيا وغانا وسيريلانكا مجتمعات 3 آلاف عاملة.
تفاوت في القدرة على الاندماج بين الجنسيات
يرى أشرف العبسة، مدير مكتب "قيصر” لاستقدام عاملات المنازل، أن قدرة العاملات على الاندماج في المجتمع الأردني تختلف من جنسية لأخرى، ويرتبط ذلك بعدة عوامل، أبرزها التعليم واللغة والثقافة العامة. ويوضح أن العاملات الفلبينيات والأوغنديات، اللاتي يتقنّ اللغة الإنجليزية بدرجات متفاوتة، يتمتعن بفرص أكبر للتفاعل والتأقلم مع المجتمع المحلي مقارنة بالعاملات اللواتي لا يجيدن سوى لغتهن الأم.
"من السهل على العاملة التي تستطيع التواصل أن تتعلم وتفهم تعليمات العمل، بل وقد تكون قادرة على تعلم بعض المفردات العربية مع الوقت، أما العاملات اللواتي لا يجيدن أي لغة وسيطة فيجدن صعوبة بالغة في التواصل، وهو ما يخلق عوائق في الأداء والاندماج مع العائلة والمجتمع”، يقول العبسة.
شيرلي… نموذج مختلف لعاملة استطاعت الاندماج.
بعد جهد كبير للعثور على عاملة مهاجرة تتحدث العربية بشكل نسبي، تمكّنا من مقابلة شيرلي، وهي عاملة فلبينية تعيش في الأردن منذ أكثر من 17 عامًا. تنقلت شيرلي خلال سنوات عملها بين عدة منازل، قبل أن تستقر في عملها داخل صالون تجميل، وهو ما منحها فرصة أكبر للانفتاح على المجتمع، والتفاعل مع بيئة العمل والمحيط.
تروي شيرلي: "حين كنت أعمل في المنازل، كانت حركتي محدودة، وكان ممنوعًا علي الخروج إلا للضرورة القصوى، لكن بعد انتقالي إلى العمل في صالون، بدأت حياتي تتغير، وبدأت أفهم المجتمع وأتفاعل معه بشكل أفضل”.
ومع ذلك، لم تخلُ تجربتها من التحديات، إذ لا تزال تتعرض لمواقف تمييز عنصري، خصوصًا عند محاولتها دخول محال تجارية أو شراء أغراض ثمينة. وتقول: "في أحد المرات، دخلت متجرًا لشراء ملابس غالية الثمن، لكن البائعة كانت تراقبني بنظرات استغراب وريبة، كأنها لا تصدق أنني أملك المال لشراء تلك الملابس، فقط لأنني آسيوية”.
وتقارن شيرلي بين تجربتها في الأردن ولبنان، وتوضح أن المجتمع اللبناني أكثر انفتاحًا ويسمح للعاملات بالاختلاط والتجول بحرية نسبية، ما يساهم بشكل أكبر في إدماجهن، بخلاف الوضع في الأردن حيث لا تزال الكثير من البيوت تعتبر العاملة مجرد جزء من المنزل، لا ينبغي أن تخرج أو تختلط خارج إطار العمل.
الخوف من العلاقات الاجتماعية يقيد حرية العاملات
يقول العديد من أصحاب المنازل إنهم يفضلون الحد من حركة العاملات خارج المنزل خوفًا من بناء علاقات عاطفية أو صداقات قد تجلب مشكلات مستقبلية. يرون أن هذا الانفتاح قد يفتح الباب أمام تورط العاملات في ممارسات غير قانونية أو مسيئة قد تنعكس سلبًا على سمعة العائلة.
ويشرح أشرف العبسة: "غالبية أرباب العمل يمنعون العاملات من الخروج بمفردهن بسبب الخوف من اختلاطهن بأشخاص غير موثوقين، أو إمكانية التورط في علاقات شخصية، ما قد يضع العائلة في مأزق قانوني أو أخلاقي. هذا الخوف مفهوم، لكنه أيضًا يقيد حرية العاملات ويمنع اندماجهن”.
غياب التأهيل الثقافي واللغوي يعمق الفجوة
يؤكد العبسة أن واحدة من أبرز المشكلات في هذا القطاع هي غياب برامج التأهيل الجادة قبل قدوم العاملات إلى الأردن، سواء من ناحية المهارات اللغوية أو المعرفة الثقافية التي تساعدهن على فهم طبيعة المجتمع المحلي.
"غالبية العاملات يأتين دون أي تأهيل حقيقي. من المفترض أن يخضعن لدورات لغوية وثقافية وتقنية قبل دخول السوق الأردني، لكن هذا لا يحدث بالشكل الكافي، وهو ما يجعل كثيرًا من العاملات يعانين من صدمة ثقافية وصعوبة في التكيف”، يوضح العبسة.
الهروب من المنازل… ظاهرة مقلقة
ضعف التأهيل، وصعوبة التأقلم، بالإضافة إلى القيود الشديدة التي تُفرض على حركتهن، تدفع بعض العاملات إلى الهروب من منازل مخدوميهن، واللجوء للعيش في أحياء باتت تُعرف شعبيًا بأسماء مدن آسيوية أو إفريقية في العاصمة عمان.
يوضح العبسة أن هذه الظاهرة آخذة بالاتساع، قائلاً: "هناك عشرات الآلاف من العاملات اللواتي يعشن بشكل غير قانوني في عمان، دون أوراق ثبوتية أو تصاريح عمل. يقطنّ في أحياء مخصصة باتت معروفة بين الناس، ويشكلن شريحة هشة قد تتعرض للاستغلال أو الجريمة، دون أي حماية حقيقية من الدولة”.
ويحمل العبسة وزارة العمل المسؤولية، مطالبًا بتشديد الرقابة وتنظيم هذا القطاع لضمان سلامة العاملات والمجتمع معًا.
رأي القانون: حرية التنقل وضرورة حماية الحقوق الإنسانية
أكدت الحقوقية والمستشارة القانونية في جمعية تمكين، أسماء عميرة، أن عاملات المنازل يخضعن لأحكام نظام العاملين في المنازل وطهاتها وبستانييها ومن في حكمهم، وهو نظام انبثق عن المادة الثالثة من قانون العمل الأردني.
وقالت عميرة إن هذا النظام يوضح بشكل صريح حقوق وواجبات كل من العاملات وأصحاب العمل، مشيرة إلى أن من أبرز ما يكفله النظام هو منح العاملات إجازة أسبوعية، وحقهن في المطالبة ببدل مالي في حال لم يحصلن عليها.
وأوضحت عميرة أن الكثير من أصحاب العمل لا يلتزمون بتطبيق هذه الحقوق، إذ يمتنعون عن منح الإجازة الأسبوعية أو البدل عنها، بحجة الخوف من مغادرة العاملة مكان العمل وعدم عودتها.
وأشارت عميرة إلى أن هذا التخوف لا يبرر مخالفة القانون، مؤكدة أن حرمان العاملات من هذا الحق يمثل انتهاكًا صريحًا للنظام. ولفتت إلى أن نحو 90% من عاملات المنازل يُحرمن من الإجازة الأسبوعية، وهو ما يؤدي إلى توتر في العلاقة بين العاملات وأصحاب العمل، وقد يتسبب في مشاكل قانونية وإنسانية كان بالإمكان تفاديها بالالتزام بالتشريعات.
في هذا السياق، تؤكد جمعية معهد تضامن النساء الأردني "تضامن” أن العمالة المنزلية، وخاصة من النساء والفتيات، تشكل أحد أكثر القطاعات هشاشة، بالرغم من مساهمتها الاقتصادية الكبيرة في المجتمعات المستقبلة، ومنها الأردن.
وتشير "تضامن” إلى أن منظمة العمل الدولية اعتمدت في مؤتمرها السنوي في حزيران 2011 الاتفاقية رقم (189) المعروفة باسم "اتفاقية العمل اللائق للعمال المنزليين”، والتوصية المكملة لها رقم (201)، في أول خطوة تاريخية نحو الاعتراف بحقوق العاملات المنزليات.
وتوضح "تضامن” أن الاتفاقية تهدف إلى ضمان حقوق العاملات، بما في ذلك القضاء على جميع أشكال التمييز، والعمل الجبري، وحجز الوثائق، والانتهاكات الجسدية واللفظية، وتأخير الرواتب، وغياب الراحة، والعمل لدى أكثر من عائلة دون تنظيم، وهو ما يجرح كرامتهن ويخالف أبسط مبادئ حقوق الإنسان.
وتضيف "تضامن” أن هذه الاتفاقية والتوصية الملحقة بها، رغم أنها غير ملزمة قانونيًا، فإنها تقدم توجيهات عملية تساعد في تطوير السياسات الوطنية، وتحقيق التوازن بين مسؤوليات العمل والحقوق الإنسانية.
ويؤكد المحامي إياد الرواشدة أن القانون الأردني يُجرّم صراحة حجز جوازات سفر العاملات أو منعهن من التنقل. ويضيف: "حرية التنقل حق أساسي، واحتجاز جواز السفر أو الوثائق الشخصية للعاملة يعدّ انتهاكًا يعاقب عليه القانون. يجب أن تكون العاملة على دراية بحقوقها القانونية من لحظة دخولها الأردن، مع ضرورة وجود نظام رقابي يضمن احترام هذه الحقوق”.
تغطية اعلامية غير مهنية تساهم في صعوبات الاندماج
أظهرت دراسة تحليلية أُجريت على محتوى الإعلانات المنشورة عبر صفحات مكاتب استقدام العاملات المنزليات على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك” خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025، نتائج لافتة بشأن طبيعة الخطاب الإعلاني المستخدم في هذا المجال.
وأكدت نتائج الدراسة التي اجريت في جامعة الشرق الأوسط الأردنية أن 9% من المواد الإعلانية تضمنت مقابلات مصوّرة مع القائمين على هذه المكاتب، فيما شكّلت المقابلات المصوّرة مع عاملات المنازل المهاجرات إلى الأردن نسبة 8% من إجمالي المحتوى. في المقابل، استندت الغالبية العظمى من الإعلانات، بنسبة 83%، إلى صور رمزية تعبيرية غير حقيقية مرفقة بنصوص مكتوبة، دون إبراز حقيقي للشخصيات المعنية.
كما أشارت الدراسة إلى أن 36% من الإعلانات ركزت على نظام "العاملة على كفالة المكتب”، والذي يتيح للمكتب استبدال العاملة في حال مغادرتها لمكان العمل أو رفضها الاستمرار به.
وأظهرت البيانات أن 76% من الإعلانات سلطت الضوء على سرعة إنجاز المعاملات ووصول العاملة إلى الأردن، مما يعكس أولوية المكاتب في إبراز الكفاءة اللوجستية.
وبنسبة مرتفعة وصلت إلى 95%، ركزت الإعلانات بشكل مباشر على قدرة العاملات على إنجاز الأعمال المنزلية بشكل دائم، إلى جانب تقديم الرعاية للأطفال وكبار السن، ما يدل على تسويقهن كـ”حل منزلي شامل”.
وذكرت الدراسة أن 15% فقط من الإعلانات تطرقت إلى إتقان العاملة للغة العربية، بينما ركزت 32% منها على سلامة العاملات من الأمراض المعدية، ما يشير إلى خطاب موجه لطمأنة العائلات الأردنية بشأن الجوانب الصحية.
تعكس هذه النتائج أن الخطاب الإعلاني المستخدم عبر صفحات الفيسبوك يغلب عليه الطابع الترويجي المبني على الكفاءة والسرعة، مع إغفال كبير للبعد الإنساني في عرض قصص وتجارب العاملات، وحقهن في الاندماج وبناء حياة اجتماعية بالإضافة لعملهن ، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى احترام الكرامة الإنسانية في هذا النوع من المحتوى.

ما بين العمل والعزلة: علاقة غامضة تنتظر الإصلاح
رغم قصص النجاح المحدودة، مثل تجربة شيرلي، لا تزال الغالبية العظمى من العاملات المهاجرات في الأردن يعشن في عزلة اجتماعية، غير قادرات على التواصل أو الاندماج، وسط ثقافة ترى أن مكان العاملة هو المنزل فقط.
يتفق كثير من أرباب العمل ومكاتب الاستقدام على أن العاملة جاءت للعمل لا للاندماج، لكن هذه النظرة تتعارض مع مفاهيم حقوق الإنسان وحقوق العمال، وتطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل العلاقة بين هذه الفئة من النساء والمجتمع الأردني الذي يزداد تنوعًا يومًا بعد يوم