التسامح الديني في الأردن: تعايش يتجلى في الحياة اليومية والقانون والدستور”

{title}
صوت الحق -

اعداد - عدي الحنيطي و قصي أبو عديلة 

في أحد صباحات العاصمة الأردنية عمان، يتنقل سامر كرادشة، المسيحي الأرثوذكسي، من مخبز إلى آخر، بحثًا عن خبز "حلال” من نوع خاص. ليس حلالًا من الناحية الإسلامية فقط، بل خاليًا تمامًا من البيض ومشتقات الحليب والدهون الحيوانية – التزامًا بصيامه الكبير، الذي يحظر عليه تناول أي منتج من أصل حيواني.


للاستماع للتقرير اضغط هنا


"مش دايمًا بلاقي خبز زي ما بدي، بس اللي بيريحني فعلًا هو احترام الناس لصيامي”، يقول سامر بابتسامة خفيفة، مشيرًا إلى تعاطف أصحاب المخابز المسلمين الذين، رغم أنهم لا يشاركونه نفس الطقوس، إلا أنهم يسألون بتفهّم: "أنت بتصوم؟ من أي طائفة؟ كيف نقدر نساعد؟”


هذا المشهد البسيط، بين مسيحي صائم ومسلم يخبز، يلخص حكاية أكبر عن الأردن: بلد تتجلى فيه روح التعايش الديني لا كشعار، بل كممارسة يومية حقيقية، تبدأ من تفاصيل الحياة الصغيرة – كرغيف خبز – وتمتد إلى القانون والدستور.


التعايش راسخ في النسب والتنوع


يشكل المسلمون السنة الأغلبية السكانية في الأردن بنسبة تقارب 92%، فيما يشكل الدروز نحو 2%، وتُقدَّر نسبة المسيحيين بنحو 6% من السكان، غالبيتهم من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية.


لكن رغم هذه النسب، يندر أن يُستخدم الدين كأداة للتمييز أو الانقسام. فالمواطنة في الأردن لا تُقاس بالديانة، بل بالمساهمة في بناء الدولة واحترام القانون. هذا الواقع جعل من المناسبات الدينية المشتركة محطة للتواصل بين الأديان، حيث يُعايد المسيحيون المسلمين في رمضان، ويشارك المسلمون في قداديس الميلاد.


وتُعد مدن مثل مادبا والكرك وعجلون نماذج واضحة لهذا التعدد، حيث يعيش أبناء الطوائف المختلفة جنبًا إلى جنب، ويتقاسمون المدارس والأسواق وحتى الأفراح والأتراح.



قانون يحمي العقيدة ويصون التعدد

يكفل الدستور الأردني حرية العقيدة، وينص في المادة 14 على أن "تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في المملكة، ما لم تُخلّ بالنظام العام أو تُخالف الآداب”.


هذه المادة ليست مجرد حبر على ورق؛ بل هي قاعدة راسخة يُبنى عليها واقع قانوني يمنح جميع الطوائف الحق في ممارسة شعائرها، وامتلاك أماكن العبادة، وتسيير شؤونها الداخلية.


وقد تم الاعتراف رسميًا بعدد من الكنائس والطوائف المسيحية، ما يمنحها الصلاحية في إدارة المحاكم الكنسية التي تتولى قضايا الأحوال الشخصية، ويعزز هذا الاعتراف حالة الطمأنينة القانونية لأتباع الديانات غير الإسلامية.


كما تنص قوانين الأحوال المدنية والإدارية على عدم التمييز بين المواطنين بناء على الدين في الحقوق السياسية أو الوظيفية، حيث يشغل أردنيون مسيحيون مناصب وزارية ونيابية وقضائية بشكل مستمر.


الإعلام والتربية: أدوات توعية وتعايش

تُدرِّس مناهج التربية الوطنية والتاريخ في المدارس الأردنية مفاهيم التسامح وقبول الآخر، بما في ذلك التعريف بالأديان المختلفة وطقوسها وأعيادها، ما يزرع في نفوس الطلبة منذ الصغر فكرة أن التنوع الديني ليس تهديدًا، بل مصدر غنى مجتمعي.


كما تلعب الإذاعات والتلفزيونات المحلية دورًا مهمًا في إبراز هذا التعدد، من خلال تغطية احتفالات الأديان المختلفة بشكل متوازن، ونقل الصلوات والقداديس، وتسليط الضوء على القيم المشتركة التي تجمع الأردنيين مهما اختلفت طوائفهم.


وفي الجامعات الأردنية، تنظم أحيانًا ندوات حوار بين الأديان تشارك فيها شخصيات دينية ومجتمعية، ويتم تشجيع الطلاب على الحوار والنقاش الحر المبني على احترام الآخر، ما يعزز مناعة المجتمع ضد التطرف والتعصب.




مؤسسات دينية في خدمة التفاهم


لا تقتصر جهود تعزيز التعايش الديني في الأردن على الدولة فقط، بل تمتد إلى المؤسسات الدينية نفسها التي تلعب دورًا محوريًا في تهدئة الخطاب العام وتوجيهه نحو الاعتدال والرحمة.


الكنائس والمساجد، على حد سواء، تحثّ أبناءها على حسن الجوار والتعاون، وغالبًا ما يُنظم رجال دين مسيحيون ومسلمون فعاليات مشتركة في المناسبات الوطنية والدينية.


من الأمثلة البارزة على هذه الجهود "أسبوع الوئام بين الأديان”، الذي أطلقه الأردن عام 2010، وتبنته الأمم المتحدة ليصبح حدثًا عالميًا يُحتفى به كل عام في فبراير. هذا الأسبوع يضم فعاليات فكرية واجتماعية تؤكد أن التعايش الديني ليس مجرد رغبة، بل ضرورة إنسانية في عالم مليء بالتحديات.


أكد مدير عام مؤسسة طموحات لتنمية القدرات الأردنية، وأستاذ علم الاجتماع الدكتور رسمي الخزاعلة، أن الجهود التي يبذلها مركز عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين اتباع الأديان العالمي (كايسيد)، ومركز وعي للتدريب في حقوق الإنسان، إلى جانب منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية، تمثل ركيزة أساسية في تعزيز الوعي المجتمعي وترسيخ قيم الحوار والتفاهم داخل المجتمع الأردني.


وأشار الخزاعلة إلى أن مؤسسة طموحات نفذت، بدعم وتمويل من مركز كايسيد، مشروعًا متخصصًا لتأهيل الصحفيين الأردنيين حول تغطية قضايا الحوار، مبينًا أن المشروع ركز على تطوير مهارات الإعلاميين في التعامل مع القضايا ذات الطابع الحواري والانقسامي، بما يسهم في بناء خطاب إعلامي معتدل يعزز السلم المجتمعي.


وأوضح أن نتائج المشروع كانت واضحة وملموسة، حيث ساهمت في إنتاج جيل من الصحفيين المتخصصين القادرين على تغطية قضايا الحوار المجتمعي بموضوعية ومهنية، مع التركيز على الدور البنّاء للإعلام في الحد من التوترات وتعزيز التفاهم بين مكونات المجتمع.


وشدد الخزاعلة على أهمية استمرار التعاون بين المؤسسات الوطنية والدولية في هذا المجال، داعيًا إلى تكثيف المبادرات التي تسعى إلى تمكين الإعلاميين والناشطين في المجتمع المدني من أداء أدوارهم بفعالية ومسؤولية في دعم ثقافة الحوار ونبذ خطاب الكراهية


تعددية تشريعية تعزز الخصوصية الدينية


رغم أن الدستور الأردني يقرّ بأن الإسلام هو دين الدولة، إلا أن الواقع التشريعي في البلاد يعكس منظومة قانونية تراعي الخصوصية الدينية لمكونات المجتمع، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية مثل الزواج والميراث والحضانة. وتمنح الدولة الطوائف الدينية المعترف بها الحق في إدارة شؤون أتباعها وفق تشريعاتها الخاصة، ضمن إطار قانوني منظم.


ويرى الخبير الاجتماع الدكتور رسمي الخزاعلة أن هذا التعدد لا يُعد استثناءً، بل يمثل ركيزة أساسية في النموذج الأردني للتعايش، إذ تُتيح الدولة للطوائف المسيحية، على سبيل المثال، تنظيم شؤونها الأسرية ضمن محاكم كنسية معترف بها رسمياً. ويؤكد أن هذه التعددية التشريعية لا تتعارض مع مبدأ المواطنة، بل تعكس احترام الدولة للتنوع الديني، وتجعل من القانون أداة لحماية الخصوصية بدلاً من فرض التوحيد القانوني.


ويشير الخزاعلة إلى أن هذا التوازن يُعد من عوامل الاستقرار الاجتماعي، حيث يشعر كل مكوّن ديني بأن له إطارًا قانونيًا خاصًا يراعي معتقداته دون أن يتجاوز على النظام العام للدولة.


ازدواج تشريعي منظم بين الدولة والطوائف


يُظهر النظام القضائي الأردني تمايزًا واضحًا في إدارة قضايا الأحوال الشخصية، حيث يُطبّق المسلمون أحكام الشريعة الإسلامية، بينما تخضع الطوائف المسيحية لقوانين كنسية تختلف في تفاصيلها من طائفة إلى أخرى، وخاصة في قضايا الزواج المختلط، الميراث، والطلاق.


ويشرح الدكتور الخزاعلة أن هذا التنوع لا يعني غياب الانضباط، بل هو انعكاس لبنية قانونية تراعي التعدد داخل وحدة الدولة. فلكل طائفة دينية مرجعية قانونية واضحة، وتُدار المحاكم الدينية وفق تشريعات معتمدة رسميًا، مما يضمن عدم تعارضها مع سيادة القانون العام.


ويضيف أن الدولة تؤدي دور الضامن وليس المتدخل، إذ تتيح المجال للطوائف في إدارة شؤونها الخاصة، مع الحفاظ على وحدة النظام القانوني العام. هذا الإطار، بحسب خزانة، يُعزز من التماسك الاجتماعي ويحول دون نشوء صراعات قانونية أو مجتمعية على خلفيات دينية.


الاعتراف الرسمي بالبهائية والدروز: بين حرية العبادة والقيود القانوني


في الأردن، تُعتبر المرجعية القانونية لكل طائفة دينية موضوعاً حساساً ومعقداً. المحامي إياد الرواشدة، المحامي المتخصص، أوضح أن هناك تبايناً في المرجعيات القانونية بين المسلمين والمسيحيين. بالنسبة للمسلمين، تُعتمد الشريعة الإسلامية كمرجعية رئيسية في القضايا الشخصية مثل الزواج والطلاق والميراث. أما المسيحيون، فيُحيلون إلى قوانينهم الكنسية في المسائل ذات الطابع الديني.


أما بالنسبة للطوائف الأخرى مثل الصوفيين والبهائيين والدروز، فقد أشار الرواشدة إلى أن هناك تبايناً في الاعتراف القانوني بحقهم في ممارسة شعائرهم. فبينما يسمح القانون الأردني بحرية العبادة لجميع الطوائف، فإن التفاصيل والقيود قد تختلف بناءً على الاعتراف الرسمي والديني لتلك الطوائف خاصة البهائية.


الحديث عن هذه المواضيع يتطلب فهماً دقيقاً للتوازن بين حقوق الأفراد وخصوصية معتقداتهم، وهو ما يعكس تعقيد المجتمع الأردني وتنوعه الديني.


إعتراف بالتصوف كجزء من التراث الوطني


أكد الشيخ منتصر خير الله، أحد رموز التصوف في الأردن، أن المملكة تنظر إلى التصوف باعتباره مكونًا أصيلًا من تراثها الديني والثقافي، مشيرًا إلى أن هناك اهتمامًا متزايدًا من الدولة والمجتمع على حد سواء بإحياء الطرق الصوفية وتنظيم عملها بما يعزز حضورها الإيجابي في الحياة العامة.


وقال الشيخ منتصر: "الأردن يُعد مركزًا روحيًا هامًا للتصوف في المنطقة، ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي واحتضانه للعديد من المواقع الدينية والتاريخية، بل لأن التصوف هنا يُنظر إليه كامتداد طبيعي للوسطية التي تميز الشخصية الدينية الأردنية.”


وأوضح أن الجهات الرسمية بدأت، خاصة في العقود الأخيرة، بإبداء اهتمام واضح بتنظيم العمل الصوفي، مشيرًا إلى صدور أنظمة وقوانين تهدف إلى تنظيم عمل الزوايا والتكايا والطرق الصوفية، لضمان أن تبقى هذه الأماكن مراكز للذكر والتربية الروحية، لا أن تستغل لأغراض شخصية أو تجارية.


وأضاف: "لقد جاء هذا الاهتمام بعد أحداث دولية وإقليمية كبرى، مثل اعتداءات 11 سبتمبر، والحرب على الإرهاب، وتصاعد الخطاب المتشدد، ما دفع الدولة إلى دعم التيارات الدينية المعتدلة، وكان للتصوف دور محوري في هذا السياق.”


وبيّن الشيخ منتصر أن المتصوفة في الأردن يشاركون بفعالية في مجالات متعددة، من العمل الاجتماعي والخيري، إلى الإسهام في النقاشات الفكرية والدينية، مؤكدًا أن التصوف ليس حالة انعزال عن المجتمع، بل حركة إصلاح روحي وسلوكي تُعنى بالإنسان في جوهره


وطن تتعدد فيه الطرق إلى الله وتلتقي على الإنسانية


ما يعيشه سامر كرادشة في شوارع عمان، وما يلقاه من احترام وتفهم، ليس حالة فردية، بل انعكاس لثقافة وطنية ترى في الدين رابطًا روحيًا لا سببًا للتفرقة.


في الأردن، يُحتفى بالاختلاف، لا يُخشى منه، ويُنظر إليه كجسر للتلاقي لا حاجزًا للفصل.


في بلد كهذا، لا يُعد احترام عقيدة الآخر مجاملة اجتماعية، بل جزءًا من ضمير جمعي يؤمن بأن الإيمان، مهما اختلفت تفاصيله، يجب أن يوحد لا يفرق.


من صوم سامر إلى تهاني رمضان، من قداس العيد إلى صلاة الجمعة، ينسج الأردنيون كل يوم لوحة فسيفسائية من التسامح… عنوانها الأكبر: الإنسان أولًا

تصميم و تطوير : VERTEX WEB SOLUTIONS