تيسير .. وأنا .. والخزّاف المتجبر!
صوت الحق -
تيسير .. ابن امة عربية محضها حبّه البالغ .. فقتله هذا الحب حين افتدى بعمره هزائمها المتتاليه!! وانقصف غصنه اليانع عندما انقصف جذع الامة وانكسر ظهرها من القهر والهزيمه!!
تيسير .. قومي صادق .. وشاعر مرهف .. نجا بموته كي لا يعيش حياة انكسار الامة .. وحالة انشطار الذات!!
تيسير .. كان نجماً قومياً لامعاً .. هوى عن سابق اصرار في ليلة ظلماء موحشه حزناً على أمة بان إنكسارها الموجع .. وغاب مجدها التليد!!
تيسير .. إبن الضاد المفّوه .. الذي طوع لغة الضاد .. فرسم بالحرف .. ووجع الحرف .. رواية .. وقصة .. وشعراً .. وموقفاً قومياً.. وترجمة لرباعيات الخيام لم تكتمل .. وآهاتٍ تفضح ظلم الحياة .. وتعرًي ظلم الانسان لأخيه الانسان افقياً وعامودياً على حدٍ سواء!!
تيسير .. ابن بلدة احبها أنا كثيراً .. فهي الطفيلة التي اكرمتني نسائمها القوميه .. ونفسها العروبي .. وناسها الطيبون حين كان لي شرف العمل في مدارسها الثانويه معلماً للغة الانجليزيه في منتصف الستينيات .. نعم .. هو ابن بلدة الشمس كما يسميها (الانباط) .. واسميها أنا موئل الصقور التي تستقبل من يقصد حضرتها أو يطرق بابها ببساط اخضر مجبول من الزيتون والمحبة .. وندهة (الله حيّه) ما إن تكتحل عيناك بمرأى غرتها البهيه!! فإليك يا مدينة الشمس والرجال .. اليك منًي .. (تعظيم سلام) !!
تيسير السبول .. ابن الوطن ..الأردن .. بجغرافيته .. وقوميته .. وفقره .. ويسره .. وعزّه ,, ووجعه .. الوطن الذي قد يقسو عليه وعليّ حيناً .. ودون قصد كما يفعل السوار مع المعصم!! ويقسو أحياناً بفعل فاعل لكننا, تيسير وأنا .. نغضي على العتب للوطن لأن السوار يظل زينة المعصم!! ونغضي على الغضب لأن العين لا تغضب على الجبين الذي يعلوها ويحميها!! ولأن .. ولأن .. ولأن!!
تيسير السبول .. تجمعني وأياه روابط المبادئ القومية النبيله .. وحلم الوحدة العربية .. والحزن القومي النبيل .. ومناهضة الظلم ورفضه بكافة اشكاله .. وآهة الحرف .. ويجمعني واياه .. وجع رصاصة اخترقت قلبينا معاً .. "مطباً" و "مطاراً"!! فقد كانت بداية "الصلية" و"مطبها" عنده .. أما "مطارها" فقد كان عندي ومن كبدي أنا!! ففي جسده كان الجرح .. وفي مهجتي كان الوجع!!
الحديث عن اخي في العروبه .. وتوأم الروح (تيسير) .. يطول .. ويطول .. حين ينداح, وعلى اوسع مدى, فرجار البوح في محيط ذاكرة الحزن والوجع النبيل!! وتعود بي الأيام الى ظلال واقعتين اثنتين في سالفٍ من الزمن .. أولاهما كانت ذات ضُحى أيام الزمن الجميل .. حين التحقت بدار الاذاعة الأردنيه وبالتحديد عندما غادرت السبّوره وحرفها المكتوب في الطفيله الى فضاء الاثير الآسر وحرفه المسموع في عمان .. ولحسن الطالع فقد كانت الاذاعة حينذاك في اوج مجدها .. وكامل عزها .. وعظيم هيبتها التي سطّر حروفها وبريقها وفصولها الشهيد وصفي التل طيب الله ثراه .. والذي جعل من الكلمة رصاصة صائبه في خدمة الوطن .. والحق .. والقضية المقدسه!!
حاصله .. دلفت الى مكتبي بدار الاذاعة .. وكانت مني التفاته واذا بي أرى (تيسير السبول) وقد تحلق حوله كوكبة من المثقفين والاعلاميين في مقصف الاذاعه, أو (الكنتين) ان شئت والذي كان بالمناسبة بمثابة منتدى ثقافي وسياسي واعلامي وملتقى لنخبة من القامات الباسقه ورجالات الاعلام والثقافة والسياسة وقتذاك!!
وكان الحديث يدور حول (رباعيات الخيام) وترجماتها العديده من والى كافة لغات الدنيا!! وأصر جميع الزملاء الحاضرين عليّ بالانضمام الى حومة النقاش .. ففعلت!! وعندما جاء دوري في الكلام أوردت فقرة واحدة توقف (تيسير) عندها كثيراً .. واذكر انه رمقني بغمزة اعجاب من عينه اليمنى عندما قلت: ان شعراء وادباء ومفكري الغرب وجدوا في رباعيات الخيام مدخلاً رحباً لولوج محيط الادب والثقافة والحضارة في عالمنا العربي .. والتأثر به والاقتباس من مخزونه.. أقول الاقتباس والذي يعتبر في المفهوم الادبي الدارج نوعاً من السرقة المشروعه!!
وضربت امثلة ثلاثه حين قلت اولاً أن الشاعر الانجليزي (جون كيتس) قال ذات يوم: (لو طُلب مني اختيار رفيق درب واحد ووحيد اثق به لمرافقتي عبر رحلة منفرده في قارب يخوض عباب المحيط لاخترت رباعيات الخيام فقط!! والثاني الشاعر الانجليزي (فيتز جرالد) والذي تغزل برباعيات الخيام وصاحبها حين قال انهما توأم روحه!! أما الثالث فهو الشاعر الامريكي (اليوت) الذي "لطش" فكرة ومداميك (الارض اليباب) وبعض الافكار المماثله من ادبنا العربي!!
وما ان انتهى النقاش حول الرباعيات في (الكنتين) حتى دنا مني (تيسير) وقال بلهجنه المحببه: أخوي عبدالسلام .. ما رايك بان استضيفك في برنامجي الإذاعي لهذا الاسبوع؟! وأذهلني هول المفاجأه فقلت على الفور: أخشى, يا ابا عروة, ان احرجك واحرجني .. لأن رصيدي الادبي المتواضع لا يكفيني مؤونة الابحار في محيط معرفتك .. فانا استاذ مدرسه متخصص في مجال الادب الانجليزي فقط .. وانت يا تيسير – ما شاء الله – شيخ اللغه .. واستاذ البيان .. وصديق الميكروفون!! واخاف ان اخذل برنامجك وأخذلني!! وقلت مازحاً: ولكن ما رأيك, يا ابا عروة, لو استضفتك أنا العبد الفقير الى الله هنا في (الكنتين) وليس في الاستوديو لاجراء حوار معك حول رباعية واحده من رباعياتك كعنوان وبالتحديد تلك التي تتحدث عن غطرسة (الخزاف العجول) .. وموضوع واحد ووحيد غصت به رباعيات الخيام ورباعيتك وهو موضوع الظلم بشتى انواعه .. ظلم الحياه .. وظلم الانسان لأخيه الانسان .. وظلم الطين لأخيه الطين .. وظلم الاستعمار.. وظلم الاحتلال الصهيوني البغيض .. وظلم الصمت العالمي تجاه الظلم.. وظلم بعض الحكام للرعايا جماعاتٍ وافراداً .. وظلم السوار للمعصم .. واخيراً ظلم الخزاف العجول الذي أفلحت رباعيتك الأولى في تعرية قسوته .. واظهار بشاعة سطوته وهو يذبح الطين .. متناسياً انه هو نفسه مجبول من الطين ايضاً!!
فضحك تيسير بصوت عالٍ وقال: أنا موافق .. ولنبدأ الساعه!! وبدأت مشوار الحوار بالسؤال التالي: أنت يا ابا عروة .. ترجمت عن الانجليزيه ثلاثين رباعيه وبيتاً واحداً من الشعر فقط .. فهل سيظل هذا البيت يتيماً يدور على "وجوه الخالات" من الرباعيات .. فضحك ثانية وقال: أكمل!! قلت: ادهشتني رباعيتك عن الخزاف العجول والتي ابدعت من خلالها في تصوير غلظة بعض القساة والمتسلطين عندما تكون المطرقه والسلطه بين أيديهم حيث "لا شاهي ولا ناهي"!!
فضحك تيسير .. وقال: يعجبني كثيراً مسار الحوار .. أكمل يا صديقي!!
واسترسلت وقلت: استأذنك بان نستعرض انت وأنا رباعيتك المقصوده واتمنى ان تكون بصوتك فاستجاب لطلبي وقال بصوت أقرب ما يكون الى صوت عسكري متأهب: -
قام خزاف عجول طينه يدحوا امامي
يضرب الاعضاء بالاعضاء في غير اهتمام
بلسان غير مرئي رأيت الطين يضرع
"يا أخي الحي .. تمهل .. وترفق بعظامي!!
وبعد ان فرغ من الالقاء .. ضحك .. وقال اكمل يا صديقي من حيث انتهيت .. فقلت: لدهشتي البالغه قرأت رباعية الشاعر الكبير أحمد رامي والتي تتحدث عن ذات الموضوع .. وذات المغزى .. وذات الخزاف المتجبر .. وذات الضحيه ..وذات النص من اللغة الفارسيه .. ولكن شتان بين الرباعيتين .. فالبون شاسع يا ابا عروة!! .. وهو على اية حال يميل لصالحك بالتأكيد .. فارتسمت على محياه ابتسامة الرضا مشفوعة بصمت ذكي محسوب كان ابلغ من كل كلام الدنيا .. واضفت: لكي اكون منصفاً فاني ها هنا استعرض كلمات وبنية ووقع رباعية الشاعر رامي والتي تقول ابياتها:
رأيت خزافاً رحاه تدور
يجدّ في صوغ دنان الحبور
كأنه يخلط في طينها ... جمجمة الشاه بساق الفقير!!
وها أنذا بعد عرض الرباعيتين اترك لفطنة الناس والذائقه الأدبيه والشعريه الحكم والقول الفصل!! مؤكداً في الوقت ذاته ان الرباعيتين هما توأمان من صلب واحد!!
ثم تولىّ (تيسير) بعد ذلك دفة الحوار وامطرني باجابات شفيفه وشافيه ..اجابات تقطر صدقاً .. وحزناً .. وتصنيفاً وافياً لابواب الظلم .. ودرجات قسوته على الصعيدين الافقي والعمودي .. ومنسوب الوجع في النفوس جراء الظلم! وتبحّر (تيسير) في الحديث عن ظلم احتلال ارض الغير .. وظلم الاحتلال الصهيوني للارض العربيه الفلسطينيه .. وظلم صمت العالم "المتحضر" ازاء الظلم الصهيوني البشع .. مستشهداً بالاقوال والافكار المنصفه للفيلسوف الانجليزي ومفكر العدالة والسلام المشهور (برتراند رسل) ودفاعه عن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والتخلص من الاحتلال الاسرائيلي والعيش بكرامة على ارض وطنه كسائر شعوب الارض!!
وبعد أن انتهى الحوار قال تيسير رحمه الله: لقد استدرجتني من خلال استجوابك, يا عبدالسلام, لكي اعاود قراءة ترجمة رباعياتي .. واستذكار مراميها .. واستكمال ما تبقى بعد السطر اليتيم من الرباعيه التي تحمل الرقم واحد بعد الثلاثين!!
والواقعة الثانيه .. جرت فصولها قبل رحيل (تيسير) بأيام معدوده .. فقد كنا هو وانا وبعض الزملاء الاذاعيين نستقل باص الاذاعه الفضي الى وسط البلد .. وعند أحد منعطفات نزول جبل الاشرفيه لمحته ينحو ببصره نحو الشباك وكأنه يداري هطول دمعة فرت من محجر عينه دون استئذان .. فتشاغلت بتقليب صفحات كتاب كنت أحمله مخافة ان اسبب له الحرج او ان ارى (تيسير) في موقف ضعف!! وتجاهلت دمعته التي وأدت مشروع ابتسامة كانت مغلفة بالحزن النبيل!! وصمت الرجل لثوان معدوده .. ثم قال: أخي عبدالسلام .. في خاطري سؤال يحيرني واريدك ان تجيبني عليه بعيداً عن الدبلوماسيه التي اعرفها عنك!! قلت: ها انذا اخي (تيسير) كلي اصغاء لسماع سؤالك!!
فقال: ماذا تفعل عندما يقسو عليك الوطن والدهر معاً؟! قلت على الفور: اشكوهما!! قال: لمن! قلت: للوطن والدهر معاً!! فاعتصر ابتسامة حييه .. وهزّ راسه ثم قال:
ألم اقل لك باني لا اريد جواباً دبلوماسياً يا عبدالسلام!!
وتولى الصمت .. واصداء الرصاص.. اكمال الحوار!! اذ جاء صوت الناعي بعد ايام يقول:
تيسير السبول .. رحل!! طيب القلب القومي الرائع رحل!!
آه يا تيسير .. كم اشتاق اليك .. ايها العربي .. الابي.. الاصيل!!
أما تريثت يا بن الشمس والوجع والامة.. لكي نكمل الحوار؟!
تيسير .. قومي صادق .. وشاعر مرهف .. نجا بموته كي لا يعيش حياة انكسار الامة .. وحالة انشطار الذات!!
تيسير .. كان نجماً قومياً لامعاً .. هوى عن سابق اصرار في ليلة ظلماء موحشه حزناً على أمة بان إنكسارها الموجع .. وغاب مجدها التليد!!
تيسير .. إبن الضاد المفّوه .. الذي طوع لغة الضاد .. فرسم بالحرف .. ووجع الحرف .. رواية .. وقصة .. وشعراً .. وموقفاً قومياً.. وترجمة لرباعيات الخيام لم تكتمل .. وآهاتٍ تفضح ظلم الحياة .. وتعرًي ظلم الانسان لأخيه الانسان افقياً وعامودياً على حدٍ سواء!!
تيسير .. ابن بلدة احبها أنا كثيراً .. فهي الطفيلة التي اكرمتني نسائمها القوميه .. ونفسها العروبي .. وناسها الطيبون حين كان لي شرف العمل في مدارسها الثانويه معلماً للغة الانجليزيه في منتصف الستينيات .. نعم .. هو ابن بلدة الشمس كما يسميها (الانباط) .. واسميها أنا موئل الصقور التي تستقبل من يقصد حضرتها أو يطرق بابها ببساط اخضر مجبول من الزيتون والمحبة .. وندهة (الله حيّه) ما إن تكتحل عيناك بمرأى غرتها البهيه!! فإليك يا مدينة الشمس والرجال .. اليك منًي .. (تعظيم سلام) !!
تيسير السبول .. ابن الوطن ..الأردن .. بجغرافيته .. وقوميته .. وفقره .. ويسره .. وعزّه ,, ووجعه .. الوطن الذي قد يقسو عليه وعليّ حيناً .. ودون قصد كما يفعل السوار مع المعصم!! ويقسو أحياناً بفعل فاعل لكننا, تيسير وأنا .. نغضي على العتب للوطن لأن السوار يظل زينة المعصم!! ونغضي على الغضب لأن العين لا تغضب على الجبين الذي يعلوها ويحميها!! ولأن .. ولأن .. ولأن!!
تيسير السبول .. تجمعني وأياه روابط المبادئ القومية النبيله .. وحلم الوحدة العربية .. والحزن القومي النبيل .. ومناهضة الظلم ورفضه بكافة اشكاله .. وآهة الحرف .. ويجمعني واياه .. وجع رصاصة اخترقت قلبينا معاً .. "مطباً" و "مطاراً"!! فقد كانت بداية "الصلية" و"مطبها" عنده .. أما "مطارها" فقد كان عندي ومن كبدي أنا!! ففي جسده كان الجرح .. وفي مهجتي كان الوجع!!
الحديث عن اخي في العروبه .. وتوأم الروح (تيسير) .. يطول .. ويطول .. حين ينداح, وعلى اوسع مدى, فرجار البوح في محيط ذاكرة الحزن والوجع النبيل!! وتعود بي الأيام الى ظلال واقعتين اثنتين في سالفٍ من الزمن .. أولاهما كانت ذات ضُحى أيام الزمن الجميل .. حين التحقت بدار الاذاعة الأردنيه وبالتحديد عندما غادرت السبّوره وحرفها المكتوب في الطفيله الى فضاء الاثير الآسر وحرفه المسموع في عمان .. ولحسن الطالع فقد كانت الاذاعة حينذاك في اوج مجدها .. وكامل عزها .. وعظيم هيبتها التي سطّر حروفها وبريقها وفصولها الشهيد وصفي التل طيب الله ثراه .. والذي جعل من الكلمة رصاصة صائبه في خدمة الوطن .. والحق .. والقضية المقدسه!!
حاصله .. دلفت الى مكتبي بدار الاذاعة .. وكانت مني التفاته واذا بي أرى (تيسير السبول) وقد تحلق حوله كوكبة من المثقفين والاعلاميين في مقصف الاذاعه, أو (الكنتين) ان شئت والذي كان بالمناسبة بمثابة منتدى ثقافي وسياسي واعلامي وملتقى لنخبة من القامات الباسقه ورجالات الاعلام والثقافة والسياسة وقتذاك!!
وكان الحديث يدور حول (رباعيات الخيام) وترجماتها العديده من والى كافة لغات الدنيا!! وأصر جميع الزملاء الحاضرين عليّ بالانضمام الى حومة النقاش .. ففعلت!! وعندما جاء دوري في الكلام أوردت فقرة واحدة توقف (تيسير) عندها كثيراً .. واذكر انه رمقني بغمزة اعجاب من عينه اليمنى عندما قلت: ان شعراء وادباء ومفكري الغرب وجدوا في رباعيات الخيام مدخلاً رحباً لولوج محيط الادب والثقافة والحضارة في عالمنا العربي .. والتأثر به والاقتباس من مخزونه.. أقول الاقتباس والذي يعتبر في المفهوم الادبي الدارج نوعاً من السرقة المشروعه!!
وضربت امثلة ثلاثه حين قلت اولاً أن الشاعر الانجليزي (جون كيتس) قال ذات يوم: (لو طُلب مني اختيار رفيق درب واحد ووحيد اثق به لمرافقتي عبر رحلة منفرده في قارب يخوض عباب المحيط لاخترت رباعيات الخيام فقط!! والثاني الشاعر الانجليزي (فيتز جرالد) والذي تغزل برباعيات الخيام وصاحبها حين قال انهما توأم روحه!! أما الثالث فهو الشاعر الامريكي (اليوت) الذي "لطش" فكرة ومداميك (الارض اليباب) وبعض الافكار المماثله من ادبنا العربي!!
وما ان انتهى النقاش حول الرباعيات في (الكنتين) حتى دنا مني (تيسير) وقال بلهجنه المحببه: أخوي عبدالسلام .. ما رايك بان استضيفك في برنامجي الإذاعي لهذا الاسبوع؟! وأذهلني هول المفاجأه فقلت على الفور: أخشى, يا ابا عروة, ان احرجك واحرجني .. لأن رصيدي الادبي المتواضع لا يكفيني مؤونة الابحار في محيط معرفتك .. فانا استاذ مدرسه متخصص في مجال الادب الانجليزي فقط .. وانت يا تيسير – ما شاء الله – شيخ اللغه .. واستاذ البيان .. وصديق الميكروفون!! واخاف ان اخذل برنامجك وأخذلني!! وقلت مازحاً: ولكن ما رأيك, يا ابا عروة, لو استضفتك أنا العبد الفقير الى الله هنا في (الكنتين) وليس في الاستوديو لاجراء حوار معك حول رباعية واحده من رباعياتك كعنوان وبالتحديد تلك التي تتحدث عن غطرسة (الخزاف العجول) .. وموضوع واحد ووحيد غصت به رباعيات الخيام ورباعيتك وهو موضوع الظلم بشتى انواعه .. ظلم الحياه .. وظلم الانسان لأخيه الانسان .. وظلم الطين لأخيه الطين .. وظلم الاستعمار.. وظلم الاحتلال الصهيوني البغيض .. وظلم الصمت العالمي تجاه الظلم.. وظلم بعض الحكام للرعايا جماعاتٍ وافراداً .. وظلم السوار للمعصم .. واخيراً ظلم الخزاف العجول الذي أفلحت رباعيتك الأولى في تعرية قسوته .. واظهار بشاعة سطوته وهو يذبح الطين .. متناسياً انه هو نفسه مجبول من الطين ايضاً!!
فضحك تيسير بصوت عالٍ وقال: أنا موافق .. ولنبدأ الساعه!! وبدأت مشوار الحوار بالسؤال التالي: أنت يا ابا عروة .. ترجمت عن الانجليزيه ثلاثين رباعيه وبيتاً واحداً من الشعر فقط .. فهل سيظل هذا البيت يتيماً يدور على "وجوه الخالات" من الرباعيات .. فضحك ثانية وقال: أكمل!! قلت: ادهشتني رباعيتك عن الخزاف العجول والتي ابدعت من خلالها في تصوير غلظة بعض القساة والمتسلطين عندما تكون المطرقه والسلطه بين أيديهم حيث "لا شاهي ولا ناهي"!!
فضحك تيسير .. وقال: يعجبني كثيراً مسار الحوار .. أكمل يا صديقي!!
واسترسلت وقلت: استأذنك بان نستعرض انت وأنا رباعيتك المقصوده واتمنى ان تكون بصوتك فاستجاب لطلبي وقال بصوت أقرب ما يكون الى صوت عسكري متأهب: -
قام خزاف عجول طينه يدحوا امامي
يضرب الاعضاء بالاعضاء في غير اهتمام
بلسان غير مرئي رأيت الطين يضرع
"يا أخي الحي .. تمهل .. وترفق بعظامي!!
وبعد ان فرغ من الالقاء .. ضحك .. وقال اكمل يا صديقي من حيث انتهيت .. فقلت: لدهشتي البالغه قرأت رباعية الشاعر الكبير أحمد رامي والتي تتحدث عن ذات الموضوع .. وذات المغزى .. وذات الخزاف المتجبر .. وذات الضحيه ..وذات النص من اللغة الفارسيه .. ولكن شتان بين الرباعيتين .. فالبون شاسع يا ابا عروة!! .. وهو على اية حال يميل لصالحك بالتأكيد .. فارتسمت على محياه ابتسامة الرضا مشفوعة بصمت ذكي محسوب كان ابلغ من كل كلام الدنيا .. واضفت: لكي اكون منصفاً فاني ها هنا استعرض كلمات وبنية ووقع رباعية الشاعر رامي والتي تقول ابياتها:
رأيت خزافاً رحاه تدور
يجدّ في صوغ دنان الحبور
كأنه يخلط في طينها ... جمجمة الشاه بساق الفقير!!
وها أنذا بعد عرض الرباعيتين اترك لفطنة الناس والذائقه الأدبيه والشعريه الحكم والقول الفصل!! مؤكداً في الوقت ذاته ان الرباعيتين هما توأمان من صلب واحد!!
ثم تولىّ (تيسير) بعد ذلك دفة الحوار وامطرني باجابات شفيفه وشافيه ..اجابات تقطر صدقاً .. وحزناً .. وتصنيفاً وافياً لابواب الظلم .. ودرجات قسوته على الصعيدين الافقي والعمودي .. ومنسوب الوجع في النفوس جراء الظلم! وتبحّر (تيسير) في الحديث عن ظلم احتلال ارض الغير .. وظلم الاحتلال الصهيوني للارض العربيه الفلسطينيه .. وظلم صمت العالم "المتحضر" ازاء الظلم الصهيوني البشع .. مستشهداً بالاقوال والافكار المنصفه للفيلسوف الانجليزي ومفكر العدالة والسلام المشهور (برتراند رسل) ودفاعه عن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والتخلص من الاحتلال الاسرائيلي والعيش بكرامة على ارض وطنه كسائر شعوب الارض!!
وبعد أن انتهى الحوار قال تيسير رحمه الله: لقد استدرجتني من خلال استجوابك, يا عبدالسلام, لكي اعاود قراءة ترجمة رباعياتي .. واستذكار مراميها .. واستكمال ما تبقى بعد السطر اليتيم من الرباعيه التي تحمل الرقم واحد بعد الثلاثين!!
والواقعة الثانيه .. جرت فصولها قبل رحيل (تيسير) بأيام معدوده .. فقد كنا هو وانا وبعض الزملاء الاذاعيين نستقل باص الاذاعه الفضي الى وسط البلد .. وعند أحد منعطفات نزول جبل الاشرفيه لمحته ينحو ببصره نحو الشباك وكأنه يداري هطول دمعة فرت من محجر عينه دون استئذان .. فتشاغلت بتقليب صفحات كتاب كنت أحمله مخافة ان اسبب له الحرج او ان ارى (تيسير) في موقف ضعف!! وتجاهلت دمعته التي وأدت مشروع ابتسامة كانت مغلفة بالحزن النبيل!! وصمت الرجل لثوان معدوده .. ثم قال: أخي عبدالسلام .. في خاطري سؤال يحيرني واريدك ان تجيبني عليه بعيداً عن الدبلوماسيه التي اعرفها عنك!! قلت: ها انذا اخي (تيسير) كلي اصغاء لسماع سؤالك!!
فقال: ماذا تفعل عندما يقسو عليك الوطن والدهر معاً؟! قلت على الفور: اشكوهما!! قال: لمن! قلت: للوطن والدهر معاً!! فاعتصر ابتسامة حييه .. وهزّ راسه ثم قال:
ألم اقل لك باني لا اريد جواباً دبلوماسياً يا عبدالسلام!!
وتولى الصمت .. واصداء الرصاص.. اكمال الحوار!! اذ جاء صوت الناعي بعد ايام يقول:
تيسير السبول .. رحل!! طيب القلب القومي الرائع رحل!!
آه يا تيسير .. كم اشتاق اليك .. ايها العربي .. الابي.. الاصيل!!
أما تريثت يا بن الشمس والوجع والامة.. لكي نكمل الحوار؟!