التأمل الجماعي للرحلة الأردنية في التعلم عن بعد

{title}
صوت الحق - د. شيرين حامد

"ما عدى التغيير هو متغير" هكذا بدأَ وزيرُ التربيةِ والتعليمِ الدكتور تيسير النُعيميّ حديثَهُ في ندوةٍ عبرَ الانترنت نظّمتها مدرسةُ المطران والأهليّة وشركةُ ايدفايس مي الأردنيّةِ، والتي شاركَهُ في جلستِها الافتتاحيّةِ سعادةُ العينِ هيفاء النّجار، وأدار الجلسةَ المهندسُ هيف بانيان مديرُ التواصلِ والمؤتمراتِ في البكالوريا الدوليّة. جاءت هذه الندوةُ للتأملِ في نتائجِ المسحِ الذي أجرتهُ الشركةُ في حزيران 2020 حولَ تجربةِ التعلمِ عن بُعد في المجتمعِ الأردنيّ من حيثُ الوصولِ، والجودةِ، والتحدياتِ، والطموحِ والخطواتِ اللاحقةِ. لم تختلفْ نتائجُ هذه الدراسةِ كثيرًا عن تلك التي توصلتْ لها الدراسةُ التي أجراها مركزُ الدراساتِ الاستراتيجيةِ في الجامعةِ الأردنيّةِ حولَ التجربةِ الأردنيّةِ في التّعلُمِ عن بُعد خلالَ الفصلِ الثاني من العامِ الأكاديميّ الماضي، ولا تختلفْ نتائجُ كلتا الدراستين عن الكثيرِ من نتائجِ الدراساتِ التي أُجرِيتْ في مناطقَ مختلفةٍ من العالمِ، وفي أنظمةٍ تعليميّةٍ أفضلَ جودةٍ وأقلَ جودة من نظامِنا التعليميّ، وفي سياقاتٍ اجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ وسياسيّةٍ مشابهةٍ للسيّاقِ الأردنيّ ومختلفةٍ عنهُ.

سيسجلُ التاريخُ أن آذارَ 2020 هو الشهرُ الذي أُغلِقتْ فيهِ المدارسُ في مئتي دولةٍ، وتحولتْ الدراسةُ من مدرسيّةٍ مُنْتَظِمَةٍ ومُنَظَّمَةٍ إلى منزليّةٍ عشوائيّةٍ، وأصبح الراديو، والتلفزيون، والمِنصاتُ الإلكترونيّةِ الرابطَ بين حوالي 1.5 مليار طفلٍ وطفلةٍ وشابٍ وشابةٍ وبين معلميهم ومدارسِهم وجامعاتِهم. عالميًّا، كان للجائحةِ عواقبٌ اجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ مباشرةٌ قصيرةَ الأجلِ، وأخرى طويلةَ الأجلِ لازالنا نجهلُ بعضَها. تربويًّا، أدّتْ الأزمةُ إلى تفاقمِ الفروقاتِ التعليميّةِ التي كانتْ سائدةً بالأصلِ بسببِ عواملَ تتعلقُ بالخلفيّاتِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ، أوالجنسِ، أو الإعاقةِ، أو الهجرةِ، أو اللّغةِ الأم، أو صعوباتِ التّعلُمِ. وعجزتْ 40٪ من دولِ العالمِ الأقلَ تنميةً والأكثرَ فقرًا عن دعمِ المتعلمين من البيئاتِ المُهمشةِ خلالَ الأشهرِ الأخيرةِ، وكانتْ العواقبُ السلبيّةُ العديدةُ لإغلاقِ المدارسَ شديدةً وبشكلٍ خاص على الأطفالِ والشبابِ من أُسَرٍ ذاتَ دخلٍ متواضعٍ، وكذلك الحالُ بالنسبةِ للمتعلمين الذين يعانون من إعاقاتٍ مختلفةٍ وصعوباتٍ في التّعلُمِ.
متى بدأنا ... أين نقف... كيف سنكمل؟

بدأَ الأردنُ في تجربةِ دمجِ التكنولوجيا في التعليمِ منذُ عامِ 2003 من خلالِ مُبادرةِ التعليمِ الأردنيّةِ، والتي تمثلتْ رسالتُها في تحفيزِ عمليّةِ تطويرِ التعليمِ من خلالِ الإبداعِ ودمجِ التكنولوجيا في التعليمِ بما يُسهِمُ في الإضافةِ النّوعيّةِ للطلبةِ والمعلمين في المدارسِ الحكوميّةِ والنّظامِ التعليميّ من أجلِ بناءِ الاقتصادِ المعرفيّ. ولأنَّ العملَ آنذاك كان في منطقةِ الرّاحةِ والأمانِ، ولأنَّ تكنولوجيا التعليمِ لم تكنْ أولويّةً حكوميّةً في التخطيطِ ورصدِ الموازناتِ، ولأنَّ أدواتِنا في التخطيطِ للمستقبلِ لم تكنْ شموليّةً بعيدةَ المدى، لم نستطعْ التوصلَ إلى استدامةِ النموذجِ الأردنيّ للتعليمِ الرقميّ المدمجِ أو الهجينِ أو أيًّا كانتْ ملامحَهُ وعنوانَهُ.

اليومَ .. وبعدَ حَوْلٍ تقريبًا على بدءِ تجربةِ التّعلمِ عن بُعدٍ في الأردنِ والعالمِ على أثرِ الجائحةِ الكونيّةِ، تكوّنَ لدينا مخزونٌ من البياناتِ، وطيفٌ من الانطباعاتِ والاتجاهاتِ، وتراكمٌ من الخبراتِ التربويّةِ والتقنيّةِ، وجملةٌ من التحدياتِ المتعلقةِ بالنّظامِ التعليميّ نفسِهِ، وأخرى مجتمعيّةٍ ثقافيّةٍ اجتماعيّةٍ تؤثرُ في النّظامِ إلى حدٍّ كبيرٍ، الأمرَ الذي يتطلبُ من جميعِ المعنيين في القطاعِ العامِ والخاصِ التوقفَ للتأملِ جميعًا في هذه التجربةِ، والمعنيين هنا هم التربويين وراسمي السياساتِ التربويّةِ والتنمويّةِ ومُنفذيها، والمخططين، والأهالي والمدارسَ والمعلمين والطلبةَ أنفسَهم. وقفةَ التأملِ هذه ليست فقط لفوائدِ التأملِ في ترتيبِ الأفكارِ وتوازنِها وتحقيقِ قَدْرًا من الإيجابيّةِ، بل لأنَّ المستقبلَ لن يكونَ استمرارًا سلسًا للأنماطِ الحاليّةِ، وحالُهُ في أنماطِ التمدرسِ لن يكونَ كما هو عليهِ اليوم، والقادمُ مختلفٌ جوهرًا وشكلًا عن القائمِ.

أين نقف اليوم؟ يشيرُ أدبُ تخطيطِ التعليمِ وسياساتِهِ إلى أنّ المرونةَ هي سمةٌ للنُّظُمِ التعليميّةِ القويّةِ، والمرونةُ هنا تشيرُ إلى قدرةِ الأفرادِ والأُسرِ والمجتمعاتِ والنّظامِ ككلّ على التخفيفِ من أثرِ الأزماتِ، والتكيّفِ معها والتعافي منها بطريقةٍ تُقللُ من تراجعِ مستوى التعليمِ، وتضمنُ حصولَ الأفرادِ على حقِهم في التعليمِ. على الرغمِ من أن استجابةَ نظامُ التعليمِ الوطنيّ، بشقيهِ العامِ والخاصِ، كان سريعًا في آذار 2020، فخصصتْ القنواتُ على التلفزيونِ الأردنيّ، وأنشأتْ مِنصَّةَ درسَكَ، ونَشِطتْ مِنصَّاتٌ أخرى تستخدمُها المدارسُ الخاصة والقطاعُ الخاص لتقديمِ المحتوى التعليميّ الإلكترونيّ، إلّا أنَّ هذا المحتوى يحتاجُ إلى عملٍ ومعالجاتٍ لإنضاجِهِ، فهو غيرُ كافٍ، وغيرُ مناسبٍ للطلبةِ من مستوياتٍ تحصيليّةٍ وأكاديميّةٍ مختلفةٍ، يخلو من التفاعلِ، ويفتقرُ للنواحي العمليّة التطبيقية والمحاكاةِ للواقعِ.

كشفتْ الجائحةُ عن عيوبٍ في نظامِنا التعليميّ علينا ردمُ فجواتِها في مجالاتٍ رئيسةٍ تشملُ أنظمةَ تقييمِ التّعلمِ (الاختباراتُ، وتقييمُ الأداءِ) ، وتأهيلَ المعلمين، وأنماطَ شخصيةِ طلابِنا وسلوكاتِ التّعلمِ لديّهم، واستقلاليّةَ الإداراتِ المدرسيّةِ ضمنَ نهجٍ تحوّلَ تدريجيًّا للامركزيّة في عملياتِ التعليمِ التي تتمُ على مستوى المدرسةِ.

كيف سنكمل رحلة التعليم والتأمل؟ في خضمِ تحوّلِنا من نظامِ تعليمٍ كلاسيكيّ واقعُهُ حقيقيٌّ، مُستقرٌ ثابتٌ واضحُ المعالمِ، إلى نظامٍ مُستحدَثٍ ومتغيرٍ واقعُهُ افتراضيٌّ وقواعدُ التّعلمِ فيهِ فرديّةٌ، علينا أنْ نضعَ الدروسَ المستفادةَ في تجربةِ التّحوّلِ الرقميّ في التعليمِ تحت المجهرِ، وعندها سنرى أنَّ عناصرَ هذه الدروسُ تتثملُ في حوكمةِ النّظامِ التعليميّ، والمناهجِ، والمعلمِ، والإدارةِ المدرسيّةِ، ونظامِ تقييمِ تعلّمِ الطلبةِ، ولايمكنْ بأيّ حالٍ من الأحوالِ أن يكونَ العملُ على هذه العناصرُ تجميّليًّا جزئيًّا فرديًّا، وإنّما جذريًّا وشموليًّا وكليًّا بجرأةٍ ضمنَ الصالحِ العامِ.

تكمنُ فرصُنا اليومَ في تحفيزِ الطلبةِ للتّعلمِ، والإبقاءِ على مشاركتِهم واهتمامِهم لفتراتٍ زمنيّةٍ أطول، وإعادةِ التفكيرِ في محتوى المناهجِ الدراسيّةِ والتخلصِ من "رتابةِ المعرفةِ" التي تقدّمُ للأطفالِ والشبابِ فتَخلِقُ فجوةً بينهم وبين المدرسةِ والتعلمِ، وتأهيلِ المعلمين وتمكينُهم ليصلوا جميعًا إلى مستوى مناسب ومرضي من الإتقانِ في استخدامِ أدواتِ التعليمِ الرقميّ بشكلٍ فعّالٍ في التعليمِ والتقييمِ.

اليومَ لدينا فرصةً حقيقيةً لتعزيزِ التعليمِ الدامجِ وتفعيلِ مبدأَ تفريدِ التعليمِ باستخدامِ قوةِ ومميزاتِ التكنولوجيا. اليومَ علينا جميعًا الاهتمامَ بقدراتِ الإداراتِ المدرسيّةِ في إدارةِ التغييرِ، والتخطيطُ الشموليُّ مع التركيزِ على إدارةِ الأزماتِ، وتوظيفِ البياناتِ والمعلوماتِ في تحسينِ تعلّمِ الطلبةِ وأداءِ المدارسِ، والتواصلَ مع الأهالي والمجتمعِ المحليّ.

اقتبسُ من الورقةِ النقاشيّةِ السابعةِ لجلالةِ الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، والتي كانت بعنوانِ بناءُ قدراتِنا البشريّةِ وتطويرُ العمليّةِ التعليميّةِ جوهرُ نهضةِ الأمّة "لقد بات التطويرُ ضرورةً أملتها الظروفُ، بل متى لم يكنْ كذلك؟ فها هي صفحةُ التاريخِ وتجاربِ الأممِ تثبتُ آلّا مَحيدَ عن التغييرِ، ولا مصيرَ إلّا إليّه، فالتغييرُ يفرضُ نفسَهُ، ويثبتُ ذاتَهُ، ويمضي غير عابئ بمن يخشونَهُ".

أبناءنا الذين ينتظمون على مقاعدِ الدراسةِ في المئويّةِ الثانية من عمرِ الدولةِ الأردنيّةِ يستحقون منّا عقولًا مُنفتحةً في التخطيطِ والتنفيذِ باستخدامِ أدواتٍ عصريّةٍ مناسبةٍ وكافيةٍ ليصلوا لحقِهم في التعليمِ العادلِ والمنصفِ، وفرصِهم في الوصولِ لأقصى طاقاتِهم... إن لم نكنْ نحنُ، فمَنْ؟ وإن لم يكنْ اليومَ، فمتى؟