الطبقية السياسية وهيبة الموقع العام

{title}
صوت الحق - يخلط الكثيرون بين مفاهيم راسخة في إدارة الشأن العام، ويحاولون إلصاق تفسيرات يأنفها المزاج الوطني العام كي يتم استباحة الكثير من المفاهيم الإيجابية الضرورية للحفاظ على هيبة الدولة وشوكة سلطاتها. والحقيقة المؤلمة أن الكثير من القيم الإدارية والسياسية التي كانت تميز الدولة ونكهة أدائها ووجهها المشرق والتي كانت سر نجاحها في البناء الوطني الذي أذهل المراقبين والطامعين في آن معاً قد تراجعت إلى مستويات قياسية لأسباب متباينة.

الطبقية السياسية كانت سمة المشهد العام في سبعينات وثمانينات القرن الماضي،
ولكنها مع ذلك حافظت على بنيان الدولة وركائز وجودها وبقي للموقع العام هيبته ولبيروقراطية الإدارة العامة ودور المؤسسات وجوده وأثره الذي بقى صامداً وقتذاك، فقد كان مفهوم الموقع العام دوراً وطنياً وخدمة ناجزة ومسؤولية أخلاقية راسخة تجاه المجتمع والدولة.

اليوم ونحن ننظر الى عقود مضت من عمر الدولة ونلمس التراجع في الإدارة العامة واختلال مفهوم الوظيفة العامة؛ نقول لقد جاءت فئة من الطارئين على المسؤولية العامة -اختلفنا او اتفقنا على مسمياتهم او اتجاهاتهم-فعمدت هذه الفئة على تحييد وتحجيم وإقصاء بيروقراط الدولة، وأمعنوا في تغريب المؤسسات بدمى موازية واشتقاق هياكل جديدة بصورة تراجع معها الموقع العام وتشتتت الصلاحيات والمسؤولييات فيه إلى مستويات مرعبة أضحينا نلمس آثارها المدمرة يوماً بعد يوم.

كان الموقع العام مهاباً، والتشريعات تحمي شوكته، والسياسات ترسخ قيمه الإيجابية، والقرارت تعكس العدالة الفطرية لرجال الحكم. كان المدراء قادة، والوزراء ساسة، والأعيان رجال دولة حتى جاء الفهم القاصر للديمقراطية ؛فأضحت الرقابة رعباً، والمساءلة اتهاماً، والمسؤولية عبئاً، وأضحى الموقع العام مطية الناقمين والحاقدين والخائفين وذوي الأيادي المرتجفة، وبات بعضهم يقول أن انج سعد فقد هلك سعيد.

في زمننا هذا تبدلت الطبقية السياسية إلى عبثية وظيفية، والموقع العام إلى وسيلة للارتزاق وموضعاً للاحتراق، وأضحت التشريعات سبيلاً للانتقام من رجال الحكم أو شراء الرضى المؤقت للجمهور، فتاهت البوصلة وأحجم الوزراء والمدراء عن اتخاذ القرار، وباتت مغادرة الموقع الحكومي في أذهان كبار الموظفين ولادة جديدة.

الأوراق النقاشية لجلالة الملك وضعت قواعد الحكم الرشيد ومفهوم الدولة القوية وركائز الموقع العام المستندة إلى قواعد الشفافية وركائز سيادة القانون ، ولذلك لا بد من القول أن نظام الوطائف القيادية الحالي يصنع موظفين لا قادة. وبنفس الوقت فإن رجال الدولة الذين يقدمون للوطن ثمرة جهدهم وخبرتهم لا يجوز أن يتسابق البعض على إضعافهم وكسر شوكتهم وإضعاف فرصهم في استقرار معقول أثناء أدائهم لواجبهم الوطني وبعد خروجهم، دون التقليل من ضرورة المساءلة عن أي تقصير أو إهدار أو إهمال بكل حزم ووفق أحكام القانون.

آن الأوان أن تعود للموقع العام هيبته، وأن ندرك بان الأوطان لا تبنى بجلد الذات ولا بالقرارات الارتجالية المنفعلة، وإنما بالموازنة العادلة بين الحقوق والواجبات، وأن نقدم الشهداء وذويهم على كل أبناء الوطن. وحمى الله وطننا الحبيب وقيادتنا الحكيمة وشعبنا الطيب من كل سوء..!