عالقون في الاستدلال الدائري..!

{title}
صوت الحق - علاء الدين أبو زينة

على عتبة العام الجديد، يعرب الكثير من المداخلين على مواقع التواصل الاجتماعي عن الأمل في أن يكون القادم أجمل. مع ذلك، في معظم المداخلات تقريبًا تظهر ظلال الخيبة والتشاؤم لدى الإشارة إلى السنة الذاهبة– وبما التي قبلها. وثمة الذين يبدو أنهم فقدوا الأمل جملة وتفصيلاً، والذين يرون السنة المقبلة ربما تكون –على الأقل- مثل الماضية والتي قبلها، لا أسوأ ولا أحسن. وقد أعجبني تعليق ظريف لأحد المُداخلين على فيسبوك، الذي كتب أن الفارق بين سنتي 2022 و2023 سيكون بالضبط مثل الفارق بين شطري مقطع أغنية هيام يونس: «ميّل يا غزيّل»، «يا غزيّل ميل»؛ أي أنه لا فرق جوهريًا سوى تلاعب نحوي بلا وظيفة دلالية.
بطبيعة الحال، التاريخ لا يكرر نفسه بالضبط. والمرء لا يخطو في النهر نفسه مرتين. ثمة سيرورة غير متوقفة لكل شيء. على الأقل، سيتذكر المرء أنه كبُر عامًا، ويدرك أنه سيكون في مواجهة المزيد من المجهولات والمفاجآت خلف المنعطفات في الأمام. لكن الناس يعبرون مع ذلك عن حالة من السكون الظاهري: ليس ثمة شيء جوهري يتغير. الكثيرون سيقولون إن أوضاعهم الشخصية لا تتطور بقدر يُعتد به؛ بيوتهم كما هي، أعمالهم كما هي، دخولهم كما هي، حالاتهم العاطفية والانفعالية راكدة كما هي. والبعض سيستشهدون بالبانوراما الأكبر؛ العالم يزداد صراعًا وظلمًا فحسب. الحريات تتراجع. الأقاليم تشتعل. الاقتصادات تتدهور. الأعمال تذبُل. باختصار، ليس ثمة ما يشي بخير أو يعرض بارقة للأمل، لا محليًا، ولا إقليميًا، ولا عالميًا. ولعل العبارة التي تستمر في تلخيص العاطفة السائدة هي «ساق الله على أيام زمان».
السكون حالة غير صحية لأنه يذبح المعنى ويخدر المخيلة. أما إذا كانت هناك حركة، لكنها «تراجعية»، فإن ذلك نظير للاحتضار. ويمكن الشعور بالطاقة السلبية الجمعية في الهواء بحيث لا تكاد الإنجازات الفردية تترك انطباعًا تمكن ملاحظته. ومع أن وجهات الحياة تكون متعلقة أحيانًا باختيارات الأفراد، فإنها تكون في كثير من الأحيان مقيدة بالحركة العامة التي يتحكم فيها آخرون بطريقة قدرية. وعلى سبيل المثال، لا يمكن الزعم بأن مجموعات المواطنين في بلادنا والعالم الثالث فاقدو الهمة وميئوسًا منهم بقدر ما هم خاضعون لاختيارات وسياسات علوية تضيق المساحات وتسد الطرق وتُعدم الفرص. ولذلك أصبح من الصعب أن ينصح المرء الآخرين بالتفاؤل أو يلومهم على نظراتهم السوداوية. وإذا نصح، فإنه سيواجه السؤال: ما العمل إذا كنتَ تعرف ما العمل؟
كان من المعتاد، تاريخيًا، أن تتغير أحوال الناس والحضارات صعودًا وهبوطًأ، وربما لن يتغير ذلك. لكن الأفراد يقيسون التغيرات بالقدر الذي يتعلق بزمن حياتهم وليس بالقرون. وبهذا المقياس المعقول، عاشت الأجيال العربية التي ننتمي إليها– وما تزال- خبرة مع الهزائم المتوالية، ونقض لمظاهر النهضة، واهتراء للبنى التحتية، والاستقرار في وضع المفعول به. وفي حين أن القاعدة هي أن السخط يفضي إلى الثورة والثورة إلى التغيير، أظهرت التجربة في العقد الماضي أن شروط التغيير لم تنضج أمام كل السياسات التي أجهضت النضج وعطلت التفكير. ومن الواضح أن كل معسكر القسوة، من قوى الهيمنة العالمية إلى الأنظمة الاستبدادية الوكيلة تعمل اليوم في كل مكان على تشويه أحلام الناس ومهاجمة كل مكان يرتفع فيه صوت.
مع ذلك، يعني الصراع في حد ذاته أن الأمور لم تستقم، ولا يمكن أن تستقيم لصالح المناهضين لأحلام البشرية وتطلعاتها العليا المشروعة. الصراع يعني أن هناك مقاومة، وأن الصراع لم يُحسم، وأنه جارٍ مهما بدت الأشياء ساكنة ظاهريًا. والصراع يعني أن على الكيانات غير العادلة التي لا تحسب حسابًا لآمال الناس أن تظل خائفة وأن لا تركن إلى افتراض السكون، فـ»الدهر حُبلى ليس يُدرى ما يلِد»، وربما يأتي التغيير– الشخصي أو الجمعي- في لحظة غير متوقعة ومن حيث لا يَحتسب أحد. هكذا هي سيرورة التاريخ التي تُعطي سببًا للأمل وتحيد مغالطة الاستدلال الدائري. لا ينبغي أن نقع نحن، ولا المتحكمون بالأقدار، في خطأ الاستدلال بما نحاول استنتاجه.
من المؤسف جدّا أن يكون الطريق المعروض إلى الأمام محكومًا بالصدام مع ظروف معاكسة وقوى عنيدة؛ من حق الإنسان أن يعيش في تصالح مع عالم أيسر ومناخ تعاوني. والأمنية أن تزول في العام المقبل الأقفال عن النوافذ وأن ينهمر الضوء وتصبح الآفاق أرحب.