محمد عرسان يكتب "خدمة العلم" وإعادة بناء الهوية الوطنية الأردنية

صوت الحق -
كتب محمد عرسان
تشهد المنطقة الإقليمية تحولات متسارعة ذات انعكاسات مباشرة على الأردن، سواء من حيث الأمن الإقليمي أو التحولات الاجتماعية والسياسية الداخلية. في خضم هذه التغيرات، برزت الحاجة المتجددة إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الهوية الوطنية الأردنية وتعزيز الانتماء لدى الأجيال الجديدة، ليس بوصفه شعارًا خطابيًا، وإنما باعتباره ركيزة أساسية لاستقرار الدولة واستمرار مؤسساتها.
التحولات التي يشهدها الإقليم، من الصراع المستمر في الأراضي الفلسطينية إلى التصريحات الإسرائيلية المتكررة التي تمس أمن الأردن ودوره، مرورًا بالاضطرابات في سوريا والعراق، تجعل من مسألة تحصين الجبهة الداخلية أولوية قصوى. إذ لم يعد التهديد محصورًا بالبعد العسكري المباشر، بل امتد ليشمل التهديدات الاقتصادية، الديموغرافية، والإعلامية، وهو ما يفرض على الدول تعزيز تماسكها الاجتماعي وضمان التزام الشباب بدورهم الوطني.
من أبرز الإشكاليات التي تواجه الأردن اليوم ما يمكن تسميته بـ"تراجع الهوية الوطنية" لدى فئات من الشباب. هذا التراجع يتجلى في ضعف الارتباط بالرموز الوطنية، وتنامي تأثير الهويات الفرعية أو الخارجية، إضافة إلى غلبة أنماط التفكير الاستهلاكي المرتبطة بالعولمة الرقمية. وفي ظل تصاعد الاستقطابات الإقليمية – سواء الدينية أو القومية أو الأيديولوجية – يصبح من الضروري إعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة الأردنية بوصفه الأساس الجامع لمكونات المجتمع.
إعادة تفعيل خدمة العلم التي كشفت الحكومة تفاصيلها تمثل إحدى الأدوات العملية لإعادة بناء الهوية والانتماء. فهذه الخدمة لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل يمكن أن تشكل منصة لتدريب الشباب على الانضباط، وتحمل المسؤولية، والتعرف على قيم العمل الجماعي، وهو ما ينعكس إيجابًا على علاقة الفرد بالدولة.
إضافة إلى ذلك، فإن إدماج برامج تثقيفية ووطنية داخل إطار خدمة العلم يمكن أن يسهم في تعزيز فهم الشباب للتحديات التي تواجه الأردن، ودورهم في مواجهتها، بعيدًا عن الخطاب التقليدي القائم على التلقين.
التجارب الدولية تشير بوضوح إلى أن المجتمعات الأكثر تماسكًا من حيث الهوية الوطنية هي الأقدر على مواجهة الضغوط الخارجية. وفي الحالة الأردنية، فإن إعادة بناء الهوية الوطنية تعني عمليًا رفع مستوى المناعة الداخلية ضد محاولات الاختراق السياسي أو الأيديولوجي، خصوصًا في ظل خطابات يمينية متطرفة في إسرائيل تتحدث عن "أرض إسرائيل الكبرى" على حساب الأردن، أو مشاريع إقليمية تهدد استقراره.
رغم أهمية خدمة العلم كأداة لإعادة ترسيخ الانتماء وتعزيز الهوية الوطنية، إلا أنها لا تكفي وحدها لمواجهة التحديات الراهنة. المطلوب هو تبني مقاربة شاملة تتكامل فيها عدة مسارات، تبدأ بتطوير المناهج التعليمية بما يرسخ قيم المواطنة والهوية بصورة عملية، وتستمر بإصلاح السياسات الإعلامية لتقديم خطاب وطني عقلاني بعيدًا عن الشعارات.
كما يتطلب الأمر توسيع المشاركة الشبابية في الحياة السياسية والاقتصادية، بما يمنح الأجيال الجديدة شعورًا حقيقيًا بالمسؤولية والانتماء، إلى جانب تعزيز العدالة الاجتماعية وفتح فرص اقتصادية متكافئة، باعتبار أن المواطن لا يتمسك بدولته بالخطاب وحده، بل عندما يلمس وجود بيئة عادلة ومنصفة تعكس معنى المواطنة الحقيقية.
وعليه، فإن خدمة العلم، إلى جانب سياسات التعليم والإعلام، يمكن أن تشكل جزءًا من استراتيجية وطنية أشمل تهدف إلى ترسيخ الانتماء وتعزيز إدراك الشباب لمكانة الأردن ودوره في الإقليم.
الأردن اليوم أمام لحظة مفصلية. فالتحديات الإقليمية الضاغطة تتطلب إعادة بناء منظومة الهوية الوطنية على أسس عملية ومستدامة، يكون للشباب فيها الدور المحوري. عودة خدمة العلم ليست مجرد قرار بل جزء من استراتيجية أمن وطني شاملة تعيد ربط الأجيال الجديدة بدولتهم، وتحصّن المجتمع الأردني أمام الضغوط والتحديات المقبلة.