الملكاوي يكتب .... في زمن الضجيج نصمت لنبقى سالمين
صوت الحق -
بقلم الاعلامي_محمد ملكاوي
يظن البعضٌ أنه يعود السبب وراء صمت الإنسان هو عدم المعرفة بالأمور أو بعض من جهل، لٰكن قد يكون الأمر مختلفـًا، فيقول أحدهم عندما تهرب منه الكلمات : "لا تأخذ صمتي بمفهوم آخࢪ لا تفسره تجاهلاً أو انتقاماً أنا أصمت حين تفقد المفࢪدات معناها ولايصبح للڪلمات جدوۍ اصمت حين أشعࢪ بأن ما سأقولھہ قد قُلتھہ مسبقاً ولم يحدث فاࢪقاً .
ما أشد حاجتنا في ظل ما نعيشه بهذا العالم المليء بالضوضاء إلى الصمت والسكون, لعله ننصت قليلآ إلى الصوت الداخلي العميق, وتهدأ روحنا قليلاً .
قله من الناس يرى أن الصمت هو نوع من الترفع عن أحاديث وثرثرة لا تُجدى، ولا تؤدى نفعـًا لصاحبها فيفضّل أن يتوقف عن الحديث ويلتزم الصمت ، وأذكر كلمات قالها لى أحد أصدقائى: "أحيَاناً نَعشقُ الصَّمت ..خوفاً مِن فَوضَى الكَلِمات!
جميعنا نتفق ان التغيير الذى يَشُهده العالم يحتاج إلى العمل لا الكلام، إلا أنه ينبغى علينا أن ننتبه لأن الصمت هنا مقرون بسببين: أولهما هو طرح أمور لا تستحق أن يضيع الإنسان فيها وقته، وثانيهما أن هناك صمتـًا يرى فيه صاحبه أن الكلمات لن تُجدى، وحينئذ وإن صمت ذٰلك الشخص عن الكلمات لٰكنه يجب أن يستمر فى أداء رسالته فى الحياة بالأعمال.
ولٰكن، حذارِ أن تجعل صمتك أداة لجَرح الآخرين! كما عبّر عن ذٰلك "برنارد شو": "إن أداة الصمت هى أفضل تعبير عن الاحتقار."!
فالصمت بين الأزواج، وما نشاهده في كثير من البيوت من خواء عاطفي، وانعدام للحوارات الهادفة بين أفراد الأسرة الواحدة، له نتائج سلبية وعكسية وقد يكون سبب رئيسي في النفور، وضياع المودة، وموت الحب؛ لذلك فإن الحديث الهادئ الهادف يجدد المياه الراكدة، ويضفي على المنازل أجواء من الحيوية.
لكن لطالما أذهلتني الطّريقة التي يصمتُ بها بعض النّاس، لا أعرف كيف أشرح ذلك، ولكنّني قابلت بالفعل أناسًا تحيط بهم هالةٌ رهيبة من السّكون، تكاد تلمسها من شدّة وضوحها، وكأنّ ما يصمت فيهم ليس الفم وحده، بل وحتّى الجسد. دماؤهم تسيرُ في سيّالاتٍ هادئة. متناغمون مع ذرّات الوجود، وكأنّهم خلقوا ليشكّلوا معها ثنائيّا. وللعجب، حتّى حين يتكلّمون يلفّك توْق غريب لتستقبِلَ موجاتهم الصّوتيّة شديدة الانتظام، فهي لا تقلّ سكونًا عن كلّ ما سبق، هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكونون قليلي التبسّم، ولكن ليس بقصد العبوس، ملامحهم تخلو من التّعبير على نحوٍ بريء، كصفحة بيضاء تستثير مخيّلتك لتملأها.
وفي المرّات القليلة التي يضحكون بها ستشعر أنّ الشّمس أشرقت.
ويقول الإمام الشافعي من بحر الطويل
وَجَدتُ سُكوني متجرًا فلزمتُهُ---إذا لَم أجِد ربحًا فلستُ بخاسِرِ
وَما الصمتُ إلاّ في الرجالِ مُتاجرٌ---وتاجِرُهُ يَعلو على كُلّ تاجِرٍ .
منذ مدّة طويلة شكّل لي هذا النّمطُ الفريد من الشّخصيّات -من وجهة نظري- طموحًا، ثمّ عقبةً كؤود لم أستطع تطويعها، فعلى قدر حبّي لهؤلاء الأشخاص، إلا أنّني بعيدآ عنهم كلّ البعد، ولا أمتلك أيّة مقوّمات تؤهّلني لمجرّد الطّموح بأن أصبح واحدآ منهم.
أنا على النّقيض تمامًا، أحبّ الكلام، ليس الكلام الذي نقصد به الحاجة الإنسانيّة للتّواصل، ولكنْ الكلامَ المُتعة، الذي يثير ذهنك دائمًا، ويعلق به.
أعشق اللّحظة التي تلمع فيها كلمةٌ غريبة أمامي، أو مصطلح وليد الموقف مؤثّرا، أودّ لو أستطيع تخليدها ،أكرهُ أن يجتمع شخصان أو أكثر ثمّ يجثم عليهم صمتٌ كثيفٌ يمكن قطعُه بسكّين، فأبادر دومًا وأقطعه بالفعل.
دمائي حارّة، أكاد أشعر بدبيبِها أحيانًا وهي تركض في شراييني،أمّا الضّحك والابتسام فلم يعودا خيارًا متاحًا للتّعبير عن الرّضا والاستحسانِ لشيء ما، بقدر ما هما عادة، اصبحت لا أشعر بتأثيرها المنشودِ على النّاس. جُملة "انطفأت بهجته" مناسبة جدًا وتلخّص الحال.
اتّخذت قراري عدّةَ مرّات للتّوقّف عن كوني شخص دائبَ الحركة والكلام، فالصامتون من خير أهل الأرض .. هم من يصنعون التغيير ويُضيفون كثيراً في عصر الثرثرة .. الفئة النادرة التي تعمل أكثر مما تتكلم، ليس من باب ضعف الثّقة أو عدم تقبّلي لنفسي، بقدر ما هو سعيٌ نحو الأفضل، أو ما كنت أعتقد أنّه سعيٌ نحو الأفضل، على الأقلّ أخطاء هؤلاء النّاس أقلّ بكثير من أخطائي! وفي كلّ مرّة كنتُ أحاول فيها تخصيص ساعاتٍ معيّنة خلال النّهار بهدف التدرّب على تقنين الكلام وتشذيب الحركة وتقمّص الهدوء، علّه يصبح عادتي في نهاية المطاف. كنت أصطدم بتعليقات سلبيّةٍ كثيرة، وتساؤلات أكثر حول ما إن كنتُ بخير، أو أعاني من مشكلةٍ ما، فأنا أبدو متعب ومكتئب "بزعمهم" فضلا عن المطالباتِ الغريبة بالعودة إلى ما كنت عليه في أسرع وقت.
وتستمرّ حلقة الإلحاح حتّى أصبحَ متعب بالفعل مِن كمّ التبريرات المرهِقة، التي عليّ أن أكرّرها لكي لا أشرح السّبب الحقيقيّ وراء ذلك، والأيْمان المغلّظة التي يجب أن أحلف بها كيْ يتأكّد من صحّتي الأهلُ والأصدقاء، ثم –برحمة من الله- يتركوني وشأني.
وايقنت انه يصعْب فعلا أن تتغيّر في مجتمعنا، ليس صعبًا وحسب، بل يكاد يكون مُستحيلا! نحن نعيش في بيئةٍ متشابكة، حيث يتدخّل الجميع في شؤونك، صغيرها وكبيرها. وللأمانة، فقد التمستُ أنّ التّدخّل الذي يُطوَّقُ به المرءُ غالبًا ما يكون لدواعٍ طيّبة، أصلُها الحبّ، ولكن من الحبّ ما خنق! ليس جديدا أيضا إن قلت أنّ مزاجك النفسيّ بات يُقاس من اقتباساتك، و من فتراتِ ظهورك على مواقع التّواصل، رغم أنّ سبب غيابك قد يكون بسيطا جدا ولا يمتّ لمزاجك بصلة، كأن تكون مشغولًا مثلًا! في حالتي، كان غيابي المؤقّت مؤشرًا خطيرًا وجادّا على العزلة والاكتئاب.
حيث ان الأنماط المختلفة من الشّخصيّات تشكّل معا لوحتنا البشريّة، وإذ يليق ببعض النّاس صمتُهم وهدوؤهم، فلا يليق بآخرين إلا الكلامُ والحركة.
في الحقيقة حاولت أنْ أُمَنطِق الرّابط العجيب بين هذين المقترَحيْن، عبثا، فاستنتاجات النّاس الغريبة لا تملك إلا أن تضحك أمامها، ومهما كانت عارية عن الصّحة فأصحابها يكونون منها على تمام الثّقة، وسيطلقونها عليك كأحكامٍ قطعيّة، ثم سيتفاعلون معك بناءً عليها. ونحن في النّهاية لا نستطيع تجنّب النّاس وإقصاءَهم، كما أنّهم محقون أحيانا، يمكنك فعلا أن تغيّر شيئا ما فيك، لكنّك لن تستطيع مطلقًا أن تبدّل جلدك، أن تنتقل بالكامل بين طرفيْ نقيض، ودفعة واحدة. سيشكّل هذا صدمةً لنفسك قبل الآخرين، كان هذا خطأي، أعترف بذلك.
فالكثيرون ممن حولنا يصبح حديثهم، وخصوصًا في حالات الاختلاف في وجهات النظر، مجرد "تلوث سمعي"؛ إذ لا يتوقفون عن إطلاق الاتهامات يمنة ويسرة، وعندها يكون الصمت منجاة وسلامة، ويضفي على صاحبه هيبة ووقارًا، ويمنح صاحبه الفرصة لتطوير حسه الإبداعي، وإنعاش ذاكرته، وتطوير نفسه، وإعادة تقييم مواقفه، ولاسيما في هذا العصر الذي ابتُلينا فيه بصخب الحياة المعاصرة، وضجيج المدن، وإدمان الهواتف الذكية والأجهزة الحديثة؛ وهو ما حرمنا من الحصول على لحظات هدوء وصمت، نجدد فيها نشاطنا، ونستعيد صحتنا النفسية والجسدية.
كذلك، فإن الصخب والضجيج يرتبط في كثير من الأحوال بالغضب والانفعال، ومن ذلك قوله تعالى {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ}، فعندما غضب عليه السلام على قومه لعبادتهم العجل ثار وصاح عليهم، وعندما هدأ ولاذ بالصمت اهتدى إلى الصواب، وقام بما يجب عليه فعله.
ولا أجد ما أختم به أبلغ من مقولة ويليام شكسبير المشهورة: "هناك كلام لا يقول شيئًا، وهناك صمت يقول كل شيء".