نتنياهو ما بين صموئيل الاول وحزقيال

{title}
صوت الحق -
بقلم أ.د عبدالله سرور الزعبي

إسرائيل الدولة التي انشئت بقرار اممي، لتكون دولة يهودية القومية وديمقراطية ومدنية، وهي التي اعتبرها الغرب المتعاطف معها قصة نجاح دولة حافلة بالإنجازات التي تحققت في هذ المجال خلال القرن الماضي. كما وكان ينظر اليها من قبل العالم الغربي بانها مبهرة بالقفزات العلمية والتكنولوجية التي تميزت بها في بيئة ينظر اليها من قبل الغرب بانها فقدت قدرتها على المساهمة في المعرفة والابتكارات العالمية، لا بل فقد اعتبر الغرب بان بيئة المنطقة بعيدة عن شكل الديمقراطيات الغربية، والتي ركزت على حرية الانتخابات وحرية التعبير وحماية حقوق الإنسان، وغيرها من المواضيع التي ترسخت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية لديهم. ان هذه المفاهيم كانت مصدر فخراً لإسرائيل امام العالم وسوقت نفسها بانها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تتميز بكل تلك المفاهيم.

استمرّت إسرائيل في ذلك النهج لغاية منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، وتحديدا بعد اغتيال رابين، الجنرال الذي سبق وان خاض عدد من الحروب، وحاول قمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عن طريق تكسير العظام، مستندا بذلك لنص ديني متطرف "طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة- مزمور”، فأسقط هذه على الفلسطينيين، الا انه بعدها وصل لقناعة بانه لا يمكن لإسرائيل ان تعيش بسلام وأمن دون إنهاء الاحتلال والاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية المشروعة.

ان انفتاح رابين وسعيه للسلام مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة منحت شعوب المنطقة وبما فيهم الإسرائيليين تفاؤلا بإمكانية التعايش السلمي. الا ان هذا التفاؤل، قابلة نشوء تطرف إسرائيلي، اخذ بالتوسع والانتشار، إلى ان استطاع ان يوصل نتنياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل، وهو الشخص الذي من المفروض أن يكون الأكثر علمانية، كونه خريج معهد MIT، وعاش في مدينة بوسطن (المدينة التي انطلقت منها حملة الاستقلال الامريكية عن التاج البريطاني)، والتي تعتبر مدينة العلم والتكنولوجيا والمنفتحة على الحياة المدنية. إلا انه من الواضح انه لم يتمكن من الخلاص من قوة تأثير والده الفكرية (المؤرخ الصهيوني المتطرف) وجده الحاخام الصهيوني والمولود في أوروبا الشرقية (البعض يقول في بولندا والبعض الاخر في استونيا).

 

منذ ذلك التاريخ والتطرف في إسرائيل يتسع تدريجياً إلى ان وصلت نسبة المؤمنين به إلى ما يقارب 20% من سكان إسرائيل على شاكلة الحريديم وغيرهم، ويضاف لهم نسبة من المتعاطفين معهم وأصبحوا يشكلوا قوة سياسية، مرتكزة على مخاوف المجتمع الإسرائيلي الامنية. ان مثل هذه القوة السياسية الناشئة، تعمل بخلاف غالبية السكان العلمانيين، والساعين للعمل بحرية وعلى التفرغ للبحث العلمي والابتكار والتطور التكنولوجي، والعيش حياة طبيعية كبقية شعوب العالم، وهم مختلفون كلياً بنظام معتقداتهم عن الأصوليين. العلمانيون، الذين يؤمنون بالروح الليبرالية والإنسانية، معتبرين ان اليهودية يجب ان تكون قومية فقط، حسب ايان ليتسك، جعلهم عرضة لهجمات المتطرفين من أبناء المجتمع اليهودي، إلى ان وصل الأمر بوصفهم من قبل الحاخام يتسحاق يوسف، بأنهم ذوي قدرات عقلية اقل من المتدينين ولديهم صعوبة في الفهم.

نتنياهو، غير المؤمن بالسلام والرافض له قطعياً مع الفلسطينيين، وعمل خلال العقدين الماضيين على تطبيق مقولة إسحاق شامير خلال حضوره لمؤتمر مدريد، حيث قال "سأجعلهم يفاوضون 20 سنة وأعيدهم إلى نقطة الانطلاق”.

نتنياهو، القادر على إتقان فن الخطابة، والقادر على مخاطبة الداخل الاسرائيلي بلغة تختلف إلى حد ما عن لغته للعالم الغربي الديمقراطي (متناسياً ان من أهم واجبات الدولة الديمقراطية هي حماية الأقليات والدفاع عن حقوقهم) ومعتمدا على الانقسام الفلسطيني، والذي عمل على تعميقه، لكي ينفرد بغزة عن الضفة الغربية لتحقيق أهدافه.

نتنياهو، الذي أصبح متعمق بالتطرف مع الزمن، وبعض القيادات الأخرى المتحالفة معه وغيرهم من المتأثرين بآراء بعض الخامات المتطرفين، والذين يعملون على تقديم الفتاوى واسقاط بعض ما ورد في التلمود على الوضع الجيوسياسي والصراع القائم حالياً (متناسياً بان التوراة الاصلية، ككتاب سماوي لا تجيز باي شكل من الاشكال ما يقومون به من افعال. وهم الذين وصلوا لقناعة عدم الايمان بالحدود السياسية لدولة إسرائيل، بل هم يتحدثون عن الحدود الامنية، والتي من وجهة نظرهم، تمتد إلى ان تصل بابل العراقية، مولد إبراهيم عليه السلام (ونسبة له باشروا بالترويج للديانة الابراهيمية)، وهي ايضاً مكان سبي حزقيال (حيث كتب أسفاره)، وصولا إلى الإسكندرية، التي أعاد فيها الحاخامات ترتيب انفسهم للثورة على الإمبراطور الروماني، قبل اكثر من 2000 سنه (تلك الثورة التي اشتعلت بعد ان قام الإمبراطور الروماني بوضع تمثالاً له في المعبد، وهي شبيهة بثورة الفلسطينيين ضد اقتحامات اليهود المتكررة للمسجد الأقصى خلال العقود الأخيرة، الا انهم لم يتعلموا من ثورتهم تلك بالمحافظة على مقدسات الغير)، كما ويعتبر البعض منهم ان اليمن تدخل في مجالهم الامني والحيوي.

من هذا المنطلق، استمرّ نتنياهو خلال العقدين الماضيين، بالعمل ليس فقط على منع اقامة الدولة الفلسطينية، بل على قتل فكرة إقامتها من أصله، وذلك عن طريق التوسع بالاستيطان وتنفيذ أعمال القتل والاعتقال وإرهاب السكان والضغط على المنظمات الدولية لعدم تقديم المساعدات للفلسطينيين (معتقداً ان حرمان الفلسطينيين منّ المساعدات، سيجعلهم غير قادرين على الصمود) والتوسع في اقامة العلاقات مع الدول العربية، بمختلف مواقعها الجغرافية، لكي يتفرغ لإنهاء القضية الفلسطينية بطريقته، وجعل السلام معهم مفرغاً من مضمونه بالكامل.

في نفس الوقت، كآن نتنياهو وأعوانه يعملون وبشكل قوي على تحويل الدولة الاسرائيلية من دولة يهودية القومية الى يهودية الديانة على كافة الاراضي الفلسطينية التأريخية. ولتحقيق هذه الغاية، سعت الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي التي تعتبر الأكثر تطرفا على مستوى العالم في العصر الحديث، لإحداث انقلاب تاريخي داخل الدولة الإسرائيلية، ونجحت بإدخال تعديلات تشريعية على النظام القضائي (رغم معارضة الأغلبية الاسرائيلية لمثل هذه التعديلات)، تمهيدا لإصدار قانون يقضي بضم اراضي الضفة الغربية (بعد ان توسعت في الاستيطان، ووطنت ما لا يقل عن 700 الف مستوطن (حسب جدعون)، والعودة إلى أحكام الشريعة اليهودية الغير مكتوبة (التلمود) والقائمة على أساطير تعود إلى أكثر من 2000 سنه، والتي قد تؤدي في مرحلة قادمة الى إعادة فرض الجزية على غير اليهود المقيمين على ارضهم التاريخية من وجهة نظرهم. ان مثل هذه الخطوات تجعل من إسرائيل دولة ذات أصولية دينية متطرفة، ستكون خطراً ليس على المنطقة فقط، بل على الامن والسلم العالمي.

يرى بعض الباحثين الإسرائيليين المعتدلين، أمثال جدعون وغيره، بان إسرائيل، إذا ما استمرّت بهذا النهج، وتحققت أهداف المتطرفين فيها بالتحول إلى دولة اصولية دينية خلال العقود الثلاثة القادمة، فأنها ستعمل عندها على تعديل القانون الدولي ومبادئ الامم المتحدة وانظمة مؤسساتها من خلال أذرعها المنتشرة في العالم لتتوافق مع توجهاتها المستقبلية وترسيخ مفهوم التفوق العرقي لليهود. وعندها، فلنا ان نتخيل عندما يصل الى راس السلطة فيها اشخاص من أمثال وزير التراث الاسرائيلي والذي طالب باستخدام القنبلة النووية ضد الفلسطينيين، ومع نظريات القتل الجماعي السائدة لدى البعض منهم، كأمثال بن غافير، فانهم لن يترددوا عندها من استخدم الترسانة النووية الإسرائيلية ضد اي من الشعوب التي لا تتفق وتوجهاتهم.

لقد ظهر هذا التطرف بكل وضوح، بعد احداث 7/10/2023، والتي لم يكن يتوقع نتنياهو حجمها، وغيره من القيادات المؤمنة بتفوق القوة، باي شكل من الأشكال، لذلك جاء خطابة مباشرة بعدها مستخدماً ما ورد في سفر صموئيل الاول "اذهب واضرب عماليق”، كما وإسقاط نبوءة أشعيا "ابناء الظلام وأبناء النور” على الفلسطينيين معتبرهم بانهم أبناء الظلام (في مؤتمره الصحفي بتاريخ 25/10/2023)، وصولاً إلى إشارته للنبي حزقيال بتاريخ 18/11/2023 حين قال "وعمرت المدن ورممت الأطلال” إلا انه تناسى انه ورد سفر حزقيال قبل ذلك ايضاً "الشيخ والشباب والعذراء والطفل والنساء – اقتلوا للهلاك” (وهذا ما يطبق على ارض الواقع) ومن ثم يكون الأعمار والترميم، الذي ذكره نتنياهو في مؤتمره، يضاف إلى ذلك أقوال الحاخامات المقربين من المتطرفين ومنهم فريدمان، حيث قال "دمر اماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم ومواشيهم” وغيرها من الفتاوى التي تجيز فرض الحصار على الفلسطينيين وحرمانهم من مصادر الغذاء والدواء والماء والعمل على نشر الأوبئة، ومصادرة ثرواته (اذ تسعى إسرائيل للسيطرة على كافة حقول الغاز الموجودة في سواحل البحر المتوسط الشرقية).

ان ما يقوم به نتنياهو من إسقاط للتعاليم اليهودية المحرفة على الصراع مع الفلسطينيين اليوم، يمكن ان ينظر اليه باعتبارها امتداد للحروب القديمة والتي تعود إلى عهد داود عليه السلام، كما يرى البعض بان هذا الأسلوب من أساليب نتنياهو لإرهاب الداخل الإسرائيلي والمنقسم اصلاً (ان ما وحده الحرب القائمة حالياً) وليتسلح بها لمواجهة القانون الدولي ومبادئ الامم المتحدة للدفع عن نفسه تهمة ارتكابه افعال قد تشكل جرائم الإبادة الجماعية، والتي اكدها Segal في مقالاته المنشورة في الشهر الماضي.

لقد سبق للأردن وبقيادة الحكيمة والقادرة على استشراف المستقبل، ان حذر من خطورة التطرف في المنطقة وبكافة اشكاله، وعمل على مواجهته، ومنها التطرف اليهودي وبين مدى خطورته على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعلى الأماكن المقدسة في القدس الشريف وعلى شعوب المنطقة كافة، ما لم يتم منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وبينت القيادة الأردنية بان امن وسلام المنطقة والعالم مهددين، وهذا الذي اثبتته الاحداث الأخيرة للعالم بان القيادة الهاشمية كانت محقة في كل تحذيراتها خلال السنوات السابقة من خطورة الأوضاع، والتي كانت تراها تستشرقها دون غيرها من قيادات العالم.

لقد حان الوقت، وبعد هذه الحرب المؤلمة، ان يسمع العالم لوجهة نظر القيادة الأردنية الهاشمية صاحبة الحكمة المتوارثة، والضغط على نتنياهو (ان بقي في السلطة بعد الذي حصل، وعليه ان يتعلم من نتائج تجارب من سبقه بحكم دولة إسرائيل، أمثال بيغن، الذي وصل لقناعة التخلي عن سينا، رغم ورودها في النص التوراتي، ومن رابين، بعد الانتفاضة الأولى، وقع أوسلو وبعدا وقع على اتفاقية السلام مع الأردن، التي عملنا جميعاً على العمل بالبنود التي تخدم المصلحة الأردنية بعد ان اصبحت قانون نافذاً، وشارون الذي انسحب من غزه بعد الانتفاضة الثانية) او اي حكومة إسرائيلية مستقبلية، بالتوقف عن ممارسة العنف والتطرف بحق الفلسطينيين، والعمل على انهاء الصراع وإقامة الدولة الفلسطينية، وفقا للشرعية الدولية (ويجب ان لا يكون الضغط على الفلسطينيين ودول المنطقة لتنفيذا وجهة النظر الإسرائيلية