الريف في مواجهة نظام الفوترة الوطني : قراءة في آثار النظام من عيون القرى

صوت الحق -
بقلم: هاشم عقدة
في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية برزت الحاجة إلى الشفافية والنزاهة في المعاملات الضريبية ومن هذا المنطلق ارتأت الحكومة إطلاق نظام الفوترة الوطني لتوسيع القاعدة الضريبية وتوثيق الأنشطة الاقتصادية إلكترونيًا من خلال إلزام الشركات والمهن الحرة بإصدار فواتير رسمية موحدة تخضع للرقابة عبر منصة إلكترونية مركزية.
أُطلق النظام بموجب نظام تنظيم شؤون الفوترة والرقابة عليها رقم ٣٤ لسنة ٢٠١٩ ضمن قانون ضريبة الدخل والمبيعات ودخل حيز التنفيذ في شهر كانون الأول من عام ٢٠٢٢ وبدأ التطبيق الإلزامي منذ شهر نيسان من هذا العام ٢٠٢٥ واعتُبر هذا التحول أحد أعمدة تحديث النظام الاقتصادي في المملكة.
لكن مع بدء دخول النظام إلى حيز الإلزام فُتح الباب أمام نقاش واسع في الوسط الاقتصادي والمجتمع الأردني بين مؤيد يرى فيه أداة للعدالة والنزاهة ومعارض يراه عبئًا إضافيًا على الكلف التشغيلية والأسعار وخصوصًا في المجتمعات الريفية التي تُعد من أكثر البيئات تأثرًا وتحديًا فالريف الأردني يعتمد على الأنشطة الاقتصادية الفردية والزراعية والحرف الصغيرة والمشروعات غير المسجلة مما يجعل اندماجها في النظام تحديًا مزدوجًا فنيًا وثقافيًا.
في ظل هذا التحول، لا بد من التطرق إلى إيجابيات وسلبيات هذا النظام، وإن من أبرز الآثار الإيجابية التي يمكن أن يُحدثها داخل المجتمعات الريفية، أنه يُعد فرصة واعدة لتنظيم الاقتصاد في القرى والأرياف، لأنه يُساهم في دمج الأنشطة الصغيرة وغير المسجلة ضمن الإطار القانوني، مما يعزز الحماية لصغار التجار والمهنيين، فإصدارهم للفواتير يوفر سجلًا ماليًا رسميًا يمكّن أصحاب المشاريع من إثبات دخلهم أمام الجهات الحكومية والبنوك، ويفتح أمامهم آفاقًا جديدة للحصول على تمويل من خلال القروض أو حتى المنح التي تقدمها المؤسسات لتنمية المجتمعات الريفية والأقل حظًا.
كما أن النظام يحمي المستهلك من التلاعب بالأسعار أو الاحتيال من خلال إلزام البائعين بإصدار فواتير توثق معاملاتهم.
وعلى المستوى الوطني، فإن النظام يحقق قدرًا كبيرًا من العدالة الضريبية، حيث يسهم في عدم تحميل أعباء إضافية على الملتزمين سابقًا، ويقلل من التهرب الضريبي في القطاعات التي كانت تعمل دون رقابة.
ومن الناحية الاجتماعية، تسهم الفوترة في تعزيز ثقة المستهلك بالمؤسسات
ورغم ما يحمله نظام الفوترة من فوائد، إلا أن تطبيقه داخل هذه المجتمعات لا يخلو من المعوقات، إذ تواجه هذه البيئات صعوبات متعددة تتمثل في ضعف البنية التحتية الرقمية في كثير من القرى والمناطق النائية، سواء من حيث توفر الإنترنت أو الأجهزة اللازمة، أو حتى القدرة على استخدامها إن وُجدت، خاصة من قبل صغار المهنيين أو المزارعين.
كما أن من أهم الأمور التي يجب مراعاتها غياب الوعي الضريبي والثقافة المالية لدى شريحة واسعة من السكان، مما يولد حالة من الرفض أو التخوف، حيث يُنظر إلى النظام على أنه مدخل لتحمّل أعباء ضريبية إضافية لم يعتادوا عليها، وقد يشعر البعض بأن هذا النظام ينتزع منهم ما تبقى من استقرار اقتصادي هش.
الكثير من المشاريع الريفية أو العائلية أو الموسمية كانت تعمل دون تراخيص رسمية، مما يجعل انخراطها في النظام يتطلب إجراءات بيروقراطية قد تكون مرهقة أو غير مفهومة لهم، وهو ما يهدد استمرار هذه الأنشطة التي تُعد بمثابة العمود الفقري للكثير من الأسر ذات الدخل المحدود أو الفقيرة.
وتتجلى هذه التحديات والمعوقات بشكل واضح في تجارب عدد من القرى والمناطق الريفية التي يواجه سكانها صعوبة حقيقية في تطبيق النظام، فقد عبّر أصحاب مشاريع صغيرة أو تعاونيات ومزارعون في مناطق مثل جرش وعجلون وقرى إربد عن مخاوفهم ومشاكل بدأت تظهر على أعمالهم منذ الإلزام بتطبيق النظام.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، في جرش هناك العديد من التعاونيات الزراعية التي تؤجر الحيوانات لحراثة الأراضي أو تتعامل بشراء المواشي، فكيف سيتم فوترة هذه المواد ضمن النظام، كذلك التعاونيات متعددة الأغراض التي تمتهن التجارة، حيث يشترون الأجهزة الكهربائية والإلكترونية المستعملة من أشخاص عاديين وليس عن طريق محلات، ثم يبيعونها بالتقسيط عبر تعاونياتهم من أجل تحقيق ربح زهيد.
وفي قرى عجلون اشتكى أصحاب المحلات الصغيرة من عدم قدرتهم على شراء أجهزة أو ربطها بالإنترنت، أما في قرى إربد، فتعاني مشاغل الخياطة ومحال صيانة السيارات من أن إدخال مقابل خدماتهم إلى النظام قد يكون خطوة تؤدي إلى خضوعهم لضرائب لم يكونوا مستعدين لها أو لم يحسبوا حسابها.
لمواجهة هذه الصعوبات وتحقيق التكامل في تطبيق النظام تبرز الحاجة إلى توصيات عملية تراعي الواقع في هذه المجتمعات حيث من الضروري أن تتبنى الحكومة نهجًا مرنًا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة هذه المناطق وظروفها ويستحسن أن تُطلق برامج توعوية ميدانية مبسطة تنفذ بالشراكة مع البلديات والدوائر الحكومية لشرح فوائد النظام بلغة قريبة من الشارع الأردني مع تقديم الدعم الفني والتقني لمساعدتهم على التكيف مع متطلبات نظام الفوترة الوطني.
كما يُفضل ربط التزام الأفراد بالنظام بحوافز ملموسة كالإعفاءات الضريبية المؤقتة أو تسهيلات في الحصول على القروض والمنح مما يشجعهم على الانخراط الطوعي بدلًا من الشعور بالإجبار وينبغي كذلك تسهيل إجراءات ترخيص المشاريع الصغيرة وغير الرسمية في القرى بما يتيح الدخول بسلاسة إلى الاقتصاد المنظم دون وجود عراقيل أو إجراءات بيروقراطية وتكاليف تثقل كاهلهم إلى جانب الاستمرار في تطوير البنية التحتية الرقمية في المناطق الريفية للوصول إلى الخدمات بشكل عادل وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.
إن نظام الفوترة الوطني يمثل خطوة جريئة نحو بناء اقتصاد أكثر عدالة وشفافية لكنه لا يمكن أن ينجح دون مراعاة الفروقات بين بيئات التطبيق وخاصة في الريف فدمج المجتمعات الريفية في هذا التحول يتطلب تدرجًا واحتواءً وشراكة حقيقية مع الناس لا فرضًا وإجبارًا فإذا أُحسن تنفيذ ذلك فإن نظام الفوترة الوطني لن يكون عبئًا عليهم بل سيكون أداة تمكين اقتصادي واجتماعي مستدامة.