هندسة المباني من الجذر إلى القمة نحو بناءٍ آمن ووعي إنشائي

صوت الحق -
أ.د. أنيس الشطناوي
في زمن تتسارع فيه الكثافة السكانية وتزداد معه الحاجة إلى المشاريع الإنشائية العمرانية والبناء مع محدودية الأراضي السكنية والتجارية داخل المدن والبلدات، وعالم تتفاقم فيه التحديات البيئية والاقتصادية وارتفاع التكاليف، وتعاظم الاهتمام بالاستدامة وجودة البناء وسلامة الأرواح والممتلكات والاقتصاد الوطني، تبرز الحاجة إلى رفع الوعي المجتمعي السليم بين مختلف أطياف المجتمع عمومًا والقطاع الهندسي والتقني، من مهندسين ومقاولين وفنيين ومستثمرين إلى مالكي العقارات والمهتمين عامةً.
تنطلق هذه السلسلة الأسبوعية من الشذرات العلمية التوعوية لتُركّز على مفاهيم البناء الصحيح، وتجنب الأخطاء الشائعة التي قد تتحول إلى كوارث لا قدّر الله، خصوصًا أنّ إنشاء المباني لم يعد يقتصر على كونه أمرًا تقنيًا بحتًا يُسند للمكاتب الهندسية والمقاولين والجهات الرسمية وحدهم، بل أصبح قضية وعي ومسؤولية مجتمعية تبدأ من عدم الاعتياد على الخطأ، بل من فهم الأسس العلمية واحترامها وتقدير أهمية تسلسل المراحل الهندسية الصحيحة من الدراسة وحتى التنفيذ.
هذه السلسلة من الرؤى تحت عنوان "هندسة الإنشاءات والمباني من الجذر إلى القمة، نحو بناءٍ آمن ووعي إنشائي"، التي سأبدأها اليوم من خلال هذه المقدمة، بأسلوب تثقيفي وتوعوي، ستعكس الخبرة الأكاديمية والميدانية المتراكمة عبر سنوات، وتهدف هذه المقتطفات إلى تقديم محتوى دقيق ودليل لمحي مبسط في أصول إنشاء المباني وفق المعايير الهندسية وبشكل مُرتّب زمنياً ومنطقياً وفق تسلسل مراحل الإنشاء لتغطي مراحله المختلفة، وفي مجالات تبدأ من الفكرة والتخطيط وفهم ودراسة التربة والأساسات ومرورًا بالتصميم وثم التنفيذ من الأساسات إلى العناصر الإنشائية المختلفة وحتى الانتهاء والإشغال وطرق الوقاية والصيانة الدورية والسلامة والاستدامة.
وإن ما دفعني إلى الشروع بكتابة هذه السلسلة إلّا شعوري بالمسؤولية العلمية والمهنية كأستاذ للهندسة الإنشائية والزلازل، لأطرح خلاصة خبرة متنوّعة امتدت لعقود في هذا المجال، محاولًا قدر الإمكان أن أعرض ذلك بأسلوب علمي مبسط دون تفريط في الدقة، متمنيًا أن تسهم في بناء ثقافة هندسية مجتمعية واعية، تضع السلامة والاستدامة في مقدمة الأولويات لكل من يسعى لبناء منشأ صحيح ومستدام وآمن، بهدف أن نبني ثقافة مجتمعية هندسية واعية، تُسهم في تقليل الكوارث والهدر والأخطاء المكلفة التي بتنا نشهدها كثيرًا.
وسنبدأ على التتابع إن شاء الله، ونسأل الله التوفيق، من حيث يجب أن يبدأ كل شيء.... من تحت الأرض!!،
حيثما يلزم أن لا تبدأ بالبناء قبل أن تفهم الأرض تحتك، والإدراك أنّه إن خانك الأساس، حيث لا يُرى الخطأ من السطح خانك كل شيء!.
"الحلقة الأولى: التربة والأساسات… البدايات الحاسمة"
تشمل هذه المرحلة التخطيط والدراسات للتربة والأساسات كونها العقل المُدبّر لأي مشروع وكون "هندسة البناء لا تنحصر فيما نراه فوق الأرض، بل تشمل أيضَا ما يخفيه الأساس"، فالقرارات التي تُتخذ قبل أن يوضع أول حجر في البناء، تحدد مصير المبنى لعقود قادمة والإهمال فيها يعني تأجيل الفشل لا تفاديه، وتبدأ هذه المرحلة أولًا من فهم التربة والأساس بشكل دقيق وعمل دراسات الموقع الجيوتقتية لما لها من أثر عميق على التصميم؛ فالتربة بيئة متكاملة تكاد أن تكون حيّة ولها خصائص مختلفة ومتغّيرة تؤثر بشكل مباشر على سلامة الأساسات واستقرار المبنى لا مجرد " أرض صلبة" نبني فوقها.
الدراسة الجيوتقنية تشمل فحوصات ميدانية مثل عمل الآبار السبرية واختبار الاختراق القياسيSPT، أو الحفر الاستكشافي والحفر التجريبية، وتحاليل مخبرية (كالكثافة، الرطوبة، معامل القص، مقاومة الانضغاط والتحمّل للتربة...وغيرها).
دون هذه الدراسة والاختبارات الفعلية والحقيقة، يكون اختيار الأساسات ضربًا من التقدير العشوائي، مما قد يؤدي لاحقًا إلى هبوطات متفاوتة وغير متجانسة، وقصور في التحمّل وثم شقوق إنشائية، أو حتى انهيارات.
ولذلك لا بد من الإيمان أن الأساسات بلا منازع هي خط الدفاع الأول عن المبنى، فهي تحت مسؤوليتك أنت لا تحت الأرض فقط، وعندها تبدأ قصة الأمان وسلامة المبنى أو الكارثة لا قدر الله، وما بينك وبين الإنهيار إلا قرار هندسي صحيح؛ وإنّ التوفير في دراسات التربة والأساسات ليس اقتصادًا، بل مقامرة بسلامة المبنى وإهمال سيكون ثمنه باهظًا، فقد توفّر المال بأي شيء قابل للتوفير كالتقليل من الكماليات ولكن لا تمس جوهر أمان المبنى " التربة والأساسات"، فهي الحارس الصامت لعمر المبنى وأمانه ولا مساومة فيها فلا تبخل عليها وأحسن الاستثمار في الأمان.
فليكن ما تحت الأرض أوّل ما نُفكّر به حين ننوي البناء.
وإلى لقاء في لمحة قادمة إن شاء الله،
أ.د. أنيس الشطناوي
أستاذ هندسة الإنشاءات والزلازل – الجامعة الأردنية