مصر .. قاهرة المؤامرات وثابتة على المبدأ

بقلم :عدُي محمد الحنيطي
في ليل أكتوبر الحالك من عام 2023، لم تكن غزة تنام كانت أضواؤها مشتعلة بنيران القصف، وأرضها تنزف من كل زاوية ، أما في القاهرة فكان الصمت يُخفي ما هو أعمق من القلق … نقاشات مطوّلة داخل دوائر القرار، تتجاوز ردة الفعل إلى قراءة ما هو قادم ، لم يكن السؤال المطروح: "هل نساعد؟” بل: "كيف نوقف ما يُخطط له في الظل؟”
فما يجري في الظاهر … من قصف ودمار ، لم يكن إلا الغلاف العنيف لخطة أخطر، بدأت معالمها تتكشف مع تسريبات استخبارية وتحركات دبلوماسية ملغومة، كان واضحًا أن غزة لا تُستهدف عسكريًا فقط، بل ديموغرافيًا وأن الاسم المكتوب على رأس المخطط هو: "الترحيل إلى سيناء".
لم تكن هذه مجرد أزمة إنسانية، بل كانت محاولة ممنهجة لنسف جوهر القضية الفلسطينية، وتحويلها من صراع سياسي على الأرض والحقوق إلى عملية تفريغ سكاني وتهجير قسري
وهنا، تحرّكت القاهرة، ليس بردّات الفعل، ولا تحت ضغط المشاعر، بل بمنطق الدولة التي تعرف ثقل دورها التاريخي، وحدود أمنها القومي ،فقرار كهذا، لو تُرك لينفّذ، لن يُغيّر فقط شكل غزة، بل وجه المنطقة بأكملها.
وبينما كان البعض يتوقّع تحرّكًا استعراضيًا، جاء الرد المصري عمليًا وميدانياً مساعدات تتدفّق، معبر يُدار بحسّ أمني وسياسي متوازن، تحذيرات دبلوماسية تُطلق بهدوء، وأهم من ذلك موقف واضح لا لبس فيه، مفاده أن سيناء ليست ولن تكون بديلًا، وأن حق العودة ليس قابلاً للمساومة، حتى لو ضجّ الإعلام بروايات مقلوبة.
لكن هذا الموقف الصلب لم يمرّ دون ثمن فجأة، بدأ المشهد الإعلامي ينقلب، تراجعت صورة الاحتلال عن الواجهة، وظهرت مصر كأنها "المُعيق”، لا الوسيط، وكأنها "تُغلق” لا تُدير وتوازن ، وخرجت مظاهرات في عواصم مختلفة، أمام السفارات المصرية، تشوّه دورها.
وفي الكنيست الإسرائيلي، وداخل منصات إعلامية ناطقة بالعربية لكن مموّلة من الخارج، بدأت حملة منظمة لتشويه القاهرة، وتفكيك الرابط العاطفي والتاريخي بينها وبين القضية الفلسطينية.
لم تكن هذه عاصفة إعلامية عابرة، بل فصلًا جديدًا من الصراع، عنوانه: ضرب الرواية … وتحويل الجلاد إلى وسيط، والوسيط إلى متّهم.
ومع كل هذا، لم تنشغل مصر بالردّ، لم تدخل لعبة التصريحات والانفعالات. بل تركت للفعل أن يتكلم: قوافل تُرسل بصمت، رسائل تُنقل عبر القنوات الدبلوماسية، وإصرار ثابت على أن لا يُفتح بابٌ واحد نحو التهجير، لا بالصمت، ولا بالضغوط.
لقد اختارت القاهرة طريقًا مختلفًا: أن تُجسّد المسؤولية، لا أن تتباهى بها، أن تتصرّف كعمق استراتيجي حقيقي للقضيةلا كواجهة تكتيكية. وفي زمن ضاعت فيه البوصلة، كانت مصر، رغم كل الحملات، تقف كما هي: هادئة لكن يقظة، واقعية لكن صلبة، متّهمة لكن مُصرّة.
لأنها تعرف جيدًا أن من يُنتزع من أرضه، يُنتزع من تاريخه، وأن من يرضى بالتهجير اليوم، يوقّع على نسيان فلسطين غدًا.
وهكذا، لم تكن بحاجة إلى التصفيق، ولا إلى تبرير، بل فقط إلى استمرار التوازن والثبات. أن تبقى بوصلتها ثابتة، حين تفقد المنطقة اتجاهها.
قاهرةً للمؤامرات… وثابتةً على المبدأ