تركيا والجيش : هل مات شبح الانقلابات ؟

صوت الحق -
بقلم: د. نعيم الملكاوي / كاتب وباحث سياسي
منذ إعلان الجمهورية التركية عام 1923، لم يكن الجيش مجرّد مؤسسة دفاعية، بل قُدّم لنفسه طويلًا باعتباره "الحارس الأمين" لإرث مصطفى كمال أتاتورك. ولعقود ظلّ يتدخل في السياسة كلما شعر أنّ القطار انحرف عن سكة العلمانية أو مصلحة الدولة. هكذا وُلدت ذاكرة تركية مثقلة بالانقلابات، تجعل سؤال اليوم مشروعاً : هل يمكن أن نشهد انقلاباً عسكرياً جديداً في تركيا، أم أن الزمن قد تجاوز تلك المرحلة إلى غير رجعة ؟
ذاكرة الانقلابات: ما من الدبابة إلى المذكرة
• 1960 أول انقلاب ناجح أطاح بحكومة عدنان مندريس ، الذي أُعدم لاحقاً مع اثنين من وزرائه . كان ذلك إيذاناً بأن الجيش قادر على تغيير المسار السياسي متى شاء.
• 1971 " المذكرة العسكرية " التي سلّمها الجنرالات إلى الحكومة أجبرتها على الاستقالة دون الحاجة إلى دبابات في الشوارع.
• 1980 انقلاب شامل بقيادة كنعان إيفرين، اعتُقل خلاله أكثر من 650 ألف شخص، وحُلّت جميع الأحزاب، وصيغ دستور جديد بقي أثره لعقود.
• 1997 ما عُرف بـ " الانقلاب ما بعد الحداثي "، حين أجبر الجنرالات حكومة نجم الدين أربكان على التنحي عبر ضغوط مؤسسية. آلاف الضباط المتدينين أُجبروا على الاستقالة، لكن من دون تدخل عسكري مباشر.
• 2016 محاولة انقلابية فاشلة من جناح داخل الجيش ارتبطت بجماعة غولن، واجهت مقاومة شعبية هائلة، ودعماً أمنياً وسياسياً أجهضها خلال ساعات.
بعد محاولة انقلاب 2016 ولادة " جيش جديد " تحت هيمنة مدنية
فالمحاولة الانقلابية الفاشلة لم تكن مجرد محطة، بل نقطة تحوّل كبرى في مسيرة الجمهورية التركية بحيث تم التركيز على :
• تطهير واسع : جينها فُصل نحو 150 ألف موظف حكومي من وظائفهم ، بينهم أكثر من 20 ألف عسكري ، إضافة إلى إغلاق حوالي 1300 جمعية ومؤسسة و15 جامعة.
• إعادة هندسة القيادة العسكرية : جرى تغييرات جذرية في المجلس العسكري الأعلى، وانتقال صلاحيات الترقيات والتعيينات إلى يد الرئاسة مباشرة.
• تضخم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية : جهاز الاستخبارات (MIT) تضاعفت صلاحياته بعد 2017 وأصبح مرتبطاً مباشرة برئيس الجمهورية.
• الجيش كذراع سياسي – إقليمي : من سوريا إلى ليبيا وشرق المتوسط وكارى باغ ، اصبح الجيش جزءاً من المشروع السياسي للرئاسة أكثر من كونه مؤسسة مستقلة.
هذا الواقع أفرز جيشاً مختلفاً عما كان عليه لعقود خلت ، تحول الى مؤسسة أقل استقلالاً، وأكثر التصاقاً بالسلطة التنفيذية ويمتثل لاوامرها .
مراكز القوة في النظام الحاكم الحالي
1. السيطرة على القرار العسكري : لم تعد القيادة العليا للجيش تمتلك مرجعية مستقلة، بل أُدمجت فعلياً في مؤسسة الرئاسة.
2. الاستخبارات والأمن الداخلي : جهاز MIT يمسك بخيوط الداخل والخارج، ما يجعل أي محاولة تمرّد صعبة الاكتمال.
3. الإعلام الموجّه: السيطرة شبه الكاملة على وسائل الإعلام تمكّن السلطة من صياغة السردية العامة حول الجيش والدولة.
4. الشرعية الانتخابية والشعبية : رغم الأزمات الاقتصادية ، ما زال النظام يحافظ على قاعدة مؤيدة تُعطيه غطاءً ضد أي تحرك عسكري.
5. إعادة تشكيل مؤسسات الدولة : الجامعات ، القضاء ، البيروقراطية… كلها أعيد تشكيلها وفق نمط مركزي يقلص المساحات المستقلة التي قد تشكل مساساً بمنهجية الدولة الجديد .
احتمالية العودة إلى الانقلاب
اليوم ، تبدو احتمالية اي انقلاب عسكري تقليدي على غرار 1960 أو 1980 منخفضة للغاية :
• الجيش فقد استقلاليته التاريخية.
• الأجهزة الأمنية والاستخباراتية تقطع الطريق مبكراً على أي محاولة.
• المجتمع ، بعد تجربة 2016 ، أصبح أكثر وعياً بخطر الانقلابات وأقل استعداداً لقبولها لما شهده من ويلاتها مع وجود فئة لا تزال تؤمن بها .
لكن الاحتمال ليس صفرياً تماماً ، فالأزمات الاقتصادية المتصاعدة ، والاستقطاب السياسي الحاد ، وظهور أجنحة متململة داخل المؤسسة العسكرية ، كلها قد تخلق فجوات تسمح بمحاولات تمرّد معزولة . إلا أن هذه لن تكون بحجم انقلابات الماضي، بل أقرب إلى حركات تمرد جزئية سرعان ما تُخمد.
الجيش التركي الذي كان يوماً " الوصي على الدولة " لم يعد قادراً على فرض إرادته كما في الماضي. لقد تغيرت قواعد اللعبة؛ فالسلطة التنفيذية أحكمت قبضتها على مفاصل الدولة، وأعادت صياغة العلاقة بين المدني والعسكري بما يضمن لها السيطرة.
لكن السؤال الأعمق ليس عمّا إذا كان الجيش سينقلب على الدولة ، بل عمّا إذا كانت الدولة نفسها قادرة على تجنّب تحوّل قبضتها المحكمة إلى أزمة داخلية تولّد تمرّداً من رحمها وتنفلت الخيوط من بين اصابع ماسكها . فالتاريخ التركي علّمنا أن الاستقرار المفرط قد يلد هزّات ، وأن شبح الانقلاب ، وإن توارى في الظل ، لم يُدفن بعد .